في سهرة بديعة بمطعم" لا بيرل "، روى محمد بن عيسى قصة تعلقه بمدينة أصيلة، مسقط رأسه، وتأسيسه لمهرجانها الذي بات يحظى بشهرة عالمية، قائلا بإنه لما عاد إليها سنة 1976 بعد غياب طويل، وجدها على أسوء حال. وبسبب الإهمال، بدت له أحياؤها العتيقة شبيهة بركام هائل من الخرائب والأطلال .وكانت الشوارع والساحات غير معبدة، عليها تتراكم الفضلات والأوساخ على مدار الساعة. وكان أهلها يعيشون شبه مقصيين عن العالم. 

أحزنته تلك المشاهد كثيرا حتى أنها باتت تلاحقه في الليل والنهار كما لو أنها كوابيس مرعبة. وكان عائدا من طنجة إلى أصيلة ذات مساء برفقة صديقه الرسام محمد المليحي لما خامرته فكرة القيام بعمل ينقذ مدينته البحرية الجميلة من تلك الأوضاع البائسة التي كانت تعيشها.

لم تكن تلك الفكرة سوى تأسيس مهرجان ثقافي وفني . ولم يجد بن عيسى صعوبة كبيرة في إقناع صديقه بصواب تلك الفكرة. إلاّ أن جلّ المثقفين المغاربة رفضوها ، ولم يولوها أيّ اهتمام. ففي تلك الفترة كان المغرب يتخبط في أزمات ما سيسمى في ما بعد ب"سنوات الرصاص". وكان المثقفون التقدميون واليساريون قابعين في السجون،أو فروا إلى المنافي بحثا عن الحرية والأمان. وبسبب ذلك، كانت البلاد تعيش إختناقا ثقافيا مخيفا. ولم تكن هناك مجلات أو ملاحق ثقافية أو تظاهرات تعكس رؤى أخرى تتعارض من الإتجاه العام للنظام، وللمؤسسات الرسمية. وكان من الطبيعي أن يظهر المثقفون التقدميون نفورهم من تلك الفترة معتبرين إياها مسايرة للإتجاه العام للنظام، بل قد تكون بالنسبة لهم واحدة من تلك الأفكار التي يتخفى وراءها النظام لتبييض سياسته القمعية الرافضة رفضا مطلقا لأي صوت معارض. أما المثقفون الآخرون، وجلهم كانوا يتحاشون معارضة النظام، وانتقاد سياسته، فقد بدت لهم تلك الفكرة مثالية، وبالتالي مستحيلة التحقيق. وهم يبررون ذلك بفقدان أصيلة لأي بنية تحتية تسمح لها باحتضان مهرجان ثقافي بمستوى ما كان يطمح إليه صاحبها. إلاّ أن بن عيسى الذي تستهويه المغامرات غير المحسوبة العواقب، لم يعر كل تلك المصاعب أيّ اهتمام، وبسرعة اندفع لتنفيذ مشروعه .وهو يتذكر أن أصيلة كانت بالفعل تفتقد إلى أدنى المرافق . فلم يكن بها سوى فندق صغير سكن فيه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش خلال زيارته الأولى للمدينة.أما الكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا الذي جيء به من محطة القطار في عربة يجرها حمار عجوز، فقد سكن في بيت بن عيسى . وفي كل صباح، كان أهالي أصيلة يشاهدونه جالسا في شرفة المنزل ، منهمكا في كتابة خواطره بواسطة الآلة الكاتبة.

مع حلول عقد الثمانينات ، أصبح مهرجان أصيلة بعد دورتين فقط، يحظى بشهرة كبيرة لا في المغرب وحده، بل في العديد من البلدان العربية والأوروبية. فقد دعى منتداه فنانين كبار مثل الفرنسي جورج موستاكي، والعراقي منير بشير ، كما دعا كتابا وشعراء مرموقين من أمثال بلند الحيدري ، وأدونيس، وعبد الوهاب البياتي، والطيب صالح، ورجاء النقاش، وأحمد عبد المعطي حجازي، وتشيكايا أوتامسي، والعديد من الأسماء الأخرى اللامعة في مجال الأدب والفكر والفن. كما تّم تكريم الرئيس الشاعر ليبولد سيدار سنغور. 

ولم يلبث الملك الحسن الثاني الذي كان قد شرع آنذاك في تنفيذ مشروعه الإنفتاحي على الأحزاب والقوى المعارضة ، أن إنتبه إلى ما كان يقوم به محمد بن عيسى في تلك المدينة الصغيرة التي كانت تعاني من الإهمال والنسيان. لذلك لم يتردد في تعيينه وزيرا للثقافة ليزداد المهرجان إشعاعا عربيا وعالميا. وها هو الآن يحتضن فعاليات وتظاهرات كبيرة تناقش قضايا سياسية وفكرية ساخنة يشارك فيها كتاب وشعراء ومفكرون عرب،وأفارقة، وأوروبيون، وأمريكيون من الشمال ومن الجنوب.مع ذلك ظل المثقفون اليساريون يرتابون من المهرجان، ويعلنون مقاطعتهم له. وفي ما بعد سيعتذرون عن ذلك ، وسيعترفون بعدم صواب موقفهم. وهذا ما فعله الشاعر والروائي المعروف محمد الأشعري، والروائي والأكاديمي أحمد المديني وآخرون. 

العام المقبل ، سيكمل المهرجان دورته الأربعين. وستحتفي أصيلة التي تحولت بهذا الحدث الكبير إلى مدينة ثقافية وفنية يؤمها الزوار من جميع أنحاء العالم، وبها يفتخر المغاربة وهم يهيئون أنفسهم لبناء مغرب جديد منفتح على حضارة العصر، وعلى إنجازته الكبيرة في جميع المجالات، خصوصا في مجال الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية.

بعد إنتهاء السهرة، غادر بن عيسى معطم"لابيرل " برفقة ضيوفه . وسعيدا بما حقق راح يردد بصوته البديع أغنية محمد عبد المطلب:»حبيتك وبحبك وححببك على طول" ، تعبيرا عن عشقه لأصيلة التي أنجبته فمنحها العزة والمجد والشهرة.