عادةً ما يكون المرء في أجمل طلّته وأحلى هندامه حينما يترقب شخصيةً يحبّها أو صديقا زائرا مؤنسا غاب طويلا سيلوح له بعد أمَد قصير ليستقبله بالترحاب والسعة والحفاوة والاحتضان ، ثم يجلسان معا تتخللهما الأحاديث والذكر عما مضى في محطات علاقتهما بدءا من الفتوة وصولا الى الكبر ، ترافقهما ابتسامات وضحكات وفكاهات حتى في أحاديثهما الجادة ؛ فكيف سيكون الانسان بشكله وهيأته الخارجية وحالته في أعماقه ومدى استعداده للوقوف أمامه لو كان على موعد مع زائر مرعب يسمى الموت ؟؟

كلنا شيباً وشبّانا -- دون ان نستثني احدا -- يرقب هذه الزيارة التي لانعلم متى تحين ولكنها آتية حتما لكننا نغفل عنها وتأتي على حين غرّة وأنت مرغم على استقباله ومطاوعته والانصياع لأوامره ليأخذك الى مكان لاتألفه وزمان لاتعرفه ومصير لاتفهمه ولو امتلأ عقلك علما وفلسفة وإدراكا .

هذا هو الزائر الغامض الذي يجمعنا ويلمّنا في مساحة صغيرة من الارض نسميها رمساً وربما في فسحة سماوية من فسحات الغيب والميثولوجيا غير العقلانية وقد تكون مساحة موهومة اكثر غموضا من الموت نفسه ؛ لكن هذا الموت الصارم يوّحدنا ولم يفلت احد من طرق أبوابنا ودخوله عنوة او ترحابا فهناك من يهلل لقدومه خلاصا من أوجاع وأسقام لاتنتهي وآخر يُجرّ عنوةً بيده التي لاتذعن مطلقا للتوسلات والبكاء والترجّي وعيناه تتعلقان بالحياة ؛ وآخر يرضى قانعا بمصير لايدري كنهَه ولكنه يذعن إذعان الماشية الضعيفة لشراسة ذئب جائع .

كلنا لانملك عشبة جلجامش الصانعة للخلود فهذا افتراض صنعه الانسان شهوةً للبقاء اطول مدة ممكنة وتَمني كما يتمنى الواهنون الضعفاء ممن لاحول لهم ولا قوة امام مصير محتم لا رجعة عنه ؛ فما ينفع المرء لو امتدت حياته اياما وسنوات معدودات وفي النهاية يستوي الجميع ويقعون في تلك الهوة ويترجلون من اديم الحياة التي سحقتها اقدامهم طيلة وجودهم بهذه الارض .

فمن كان يعمل في الأجواء العالية واتخذ من ريادة الفضاء مهنةً وطموحا ومن يشيّد الابراج العالية وينير فنارات السفن في البحار ومن سما قبطانا يطير في الجو ملاحا ماهرا يركل الغيوم بطائرته ويعلو ظهرها ليرى الشمس ساطعة له وحده سينزل حتما الى قاع موحش مظلم في نهاره وليله وينسى الصباح والضحى ومشهد الغروب حين يتعانق الليل مع النهار ليشكل لوحة من الغزل السماوي القليل الحمرة تتوسل النهار ان يغلق اشراقته بضع ساعات ليهدأ الانام في نوم عميق لعله يذكرهم بما سيأتي لاحقا من نوم من نوع اخر سميناه أبديا لا لقاء بعده حيث يسدل اللقاء أستاره ويرحل نهائيا فلا ترى من تحبهم ولا تتلمس اجسادهم وتغيب عنك ضحكتهم ولا تتمازج انفاسك مع انفاسهم مع اننا في كل يوم نموت موتا صغيرا كما سمّاه اسلافناوحالما تنتهي ساعات هذا الموت المؤقت نوقظ انفسنا ونلتقي بالأهلوالعابرين والسابلة وكلما رأته عيوننا التي نامت أمدا معينا .

اسائل نفسي مرارا ما الذي يجعل هذا البستاني الشيخ يحني ظهره ليزرع ورودا على حافتي الشارع ويُنبت أشجارا في جانبيه الأيمنوالأيسر وذلك العامل الذي يرصف الطريق وتلك الماكنة التي يقودها السائق الماهر وهو يفرش الاسفلت ليعبّد الشارع ويزيل المطباتوالحفر ويسوّي ارضاً سالكة ناعمة ؟ !

هل هم يمهدون لنعوشهم ان تسير بتوئدة وهم يُحملون على توابيتتسير الهوينا بين الناس المودعين المشيعين ؟؟ وقد ترافقهم هدأة جليلة وخشوع المحزونين ؛ واذا كان الموتى ممن يحمل نياشين القادة وأوسمة العساكر ترافقهم تلك الموسيقى الجنائزية ليسمعوا اخر أنغام الارضفي مزاميرها وطبولها وأبواقها التي لا تحيي الأموات حتى وان علت أصواتها وارتفعت طبولها إيذانا بوداع يسحق اللقاء سحقا ليخفيه تماما .

هذا النفخ في الصُّور بأزقّة الحياة سرعان مايخفت ويسكت مثل سكوت الموتى ولا علاقة له بنفخ صور القيامة الالهية حيث الهلع والزلزلة وميد الجبال وأصوات الحميم المتصاعدة مثل الذي نقرأها في مشاهد القيامة والساعة التي يكثر الريب فيها .

في هذه الارض يكون الموت صامتا يأتينا بهدوء ويدخل دون ان يطرق الباب ويستأذن السماح ولا يسبقها بحمحمة صوتية أو نقرة باب أو وقع أقدام أو قرقعة صوت ملفت تشعرك بوجود أحدٍ فترى نفسك محمولا في صندوق مغلق بإحكام لاتعرف وجهتك ومن سيرحب بك في قدومك المفاجئ وكيف سيكون حال هدأتك الجديدة ومن سيهلّ عليك ويعلّمك طرائق واساليب مكوثك ؟؟

انت كنت تعيش في الحياة عمرا طويلا وفي محيط تعرف وجوهه وتتعامل مع أناس فيهم الرائق والحاذق والمحبّ والكريه وتتعامل معهم وفق مشاربهم وأذواقهم وسيرتهم فهم خليط من العهر والطهر والجميل الرائع والشاتم القاذع وفيهم السويّ والغبيّ وتتصرف معهم على سوءاتهم وعواهنهم مثلما تنجذب الى الشخوص الناضجة السامية في تفكيرها ونمط حياتها لكنك في مثواك الاخير لست سوى هيكل أخرس أصمّ هامد حيث لا احد يجاورك ويمازحك ويشتمك او حتى يسرقك وتتآكل تدريجيا لتذوب تدريجيا وتتحول الى رميم تراب .

أهكذا أرواحنا الناعمة الحريرية الملمس كشغاف القلب وأبصارنا الثاقبة المُحبة لمشاهد الجمال وأسماعنا التي تطرب لحروف وأنغام الابداع وتومئ الى جلودنا كي تقشعرّ وأحاسيسنا كي تتدفق ، أهكذا تختفي بغمضة عين ؟؟ 

كل هذا الرعب والخيفة من مجيء الموت زائرا ثقيل الظل مهول الطباع مفترسا الحياة بكل شفافيتها ومخملها وحريرها الناعم ؛ والانفاس بكل شهيقها وزفيرها محطّما الرغبات والنزوات حماقتها ورونقها وجمالها وقبحها وحطّتها ورفعتها وسموّها ودناءتها لكنه يبقى ليس خسارتنا الكبرى ؛ انما الخسارة الكبرى هي في موتنا ونحن على قيد الحياة بحروف مرسومة بالدم والزيف والخوف والرعدة والترقبّ لمخاطر وسفالات المطامع والتدنِّي في كل شيء بدءا من الخلْق والخلُق وملوثات هذا العالم المائل الأعرج الساقين ؛ الواقف على قِرن ثور هائج .

هنا يصدق قول جدّنا المتنبي حين يرى الموت شافيا والمنايا أماني اذلم يعد الموت كريها ونتلقاه بالرحب والسعة والتهليل والامتنان كي ينقلنا من عالم أحمق مليء بالكراهية والسخف ، عالم غريب الأطواربسفالته وعنجهيته وتطيّره من رغبات الانسان السوبرمان لا في قوته العضلية انما في قوة عافيته البدنية والعقلية وتساميه عن المباذلوالحقارات ونزوع الافتراس والنهش والتمزيق الجسدي والنفسي والعقلاني وتتويج الجهل ليقود التنوير الى حضائر الحيوانات ويجعل من الخنازير البريّة والضباع الغادرة راعية قاسية القلب للأسُودوالنمور وتكون مواشي مسخرة لهذا المنحطّ وذلك الرعديد الجبان التافه وكأننا نتلمس مشاهد رواية جورج أورويل " Animal Farm " ومافيها من مشاهد الديستوبيا القذرة والانحطاط الانساني .

هنا يكون الموت مخففا هيّنا وقد يصل الى درجة الرغبة في مصاحبته وشبك اصابعه بأصابع من يريده رفيقا منقذا مخلّصا لنغادر هذه الحياة الرخوة في معاييرها والبذيئة في مشاهدها المقرفة كما ابتذلها فيلسوف الشعراء ابو العلاء المعرّي في ابياته الخالدة ابد الدهر :

ولما رأيت الجهلَ في الناس فاشـيــا --- تجاهلتُ حتى ظُـنّ أنيَجاهـلُ

فوا عجبا كم يَدّعي الفضلَ ناقصٌ -- ووا أسفي كم يُظهر النقصَ فاضل

وقالت " سها " للشمس : انتِ خفيّةٌ --- وقال الدجى للصبح لونك حائل 

وطاولتِ الارضُ السماءَ سفاهةً --- وفاخرت الشهبَ الحصى والجنادل

فيا موتُ زرْ ان الحياة ذمـيمـة ---- ويا نفسُ جــدّي ان دهْـرَك هـازل

مع تمنياتي للقرّاء الاعزاء حياة طويلة ماتعة هانئة مترعة بالعافية والهناء وصفو العيش والعمر المديد السعيد والرأي السديد وسعة الافقالعقلي بعيدا عن منغّصاتها وكبواتها 

 

[email protected]