حكى لي صديقي العتيد الأستاذ الأكاديمي الجامعي المصري الذي أزوره كلما وطأت قدمي ارض الكنانة الطيبة؛ إذ سرد لي قصة " كيس الفئران " يوم استقلّ القطار الذي أوصله الى القاهرة في سفرة جمعتْهُ بفلاّح مصري وهما جالسان يشتركان في مقعد عريض واحد جنب بعض في القاطرة برحلة من الصعيد الى العاصمة مع رفيقه الفلاح الذي كان يحمل كيسا من الكتان السميك يعمل على تحريكه ويهزّه بقوة شديدة بين فترة واخرى.

سألَ الاكاديمي جليسه الفلاّح: لماذا تتصرف بتحريك الكيس بين اونة واخرى؛ اخبرني بالله عليك ما الذي يحتويه كيسك الغامض هذا؟

اجاب الفلاح انه يلقط رزقه من تجميع انواع الفئران والجرذان المنتقاة بعناية من حقلهِ الزراعي اضافة الى عمله في الفلاحة الذي لم يعد يسد احتياجات أسرته بسبب الغلاء المتصاعد يوما بعد يوم واضطر لتجميع هذه القوارض وتكون مصدر رزق اضافي ليوصلها الى مركز ابحاث في العاصمة حيث يجرون عليها تجاربهم البحثية وهذه المخلوقات التي في الكيس ستقوم باثارة الجلبة وتعمل على قرض الكيس على شدة سمكه وقوته ولو ترك تلك القوارض على حالها سوف تألف مكانها وتبدأ العبث والمشاغبة وتخرق الكيس؛ وهنا لابد من تدويخها وإحداث القلاقل بينها لتنشغل بخصوماتها وتظل في هوس دائم وتُعارك بعضها البعض وهذا ما اريده من خلال دوام الخضخضة والاهتزاز فلو منحتهم الاستكانة سيرتاحون وينسون بعضهم ويعملون على تمزيق الكيس حتما فانا من خلال التحريك والاهتزاز اعمل على اثارة الجلجلة والمخاصمة كي يبتعدوا عن العبث وتمزيق مكمنهم ريثما اصل الى هدفي.

لم يخفِ الاستاذ الجامعي هلعَهُ وقفز كالملسوع من مكانه فور ان سمع تبريره المقنع وقفزت في ذهنه فكرة كيس الفئران بحالنا نحن الشعوب المتعبة والمكدودة بهذه الاوطان التي تخضخضنا كلما هدأنا قليلا فيطلق الاسافل ومنتفعو الحروب والمغرضون علينا صفارات الانذار لتبدأ مرحلة ازمة افتعلوها لإرباكنا وسرقة السكينة منا وجعلنا في صداع دائم بلا هدأة او راحة بال وصناعة المحن والأزمات متكررة ؛ فمرة تهطل علينا غيوم الكراهية وآخر يوقد شرارات النزاعات المذهبية والطائفية من اجل تشتعل بقاعنا في أديرتنا وكنائسنا ومساجدنا ويأتيك عابث نكرة من توافه الناس وأرذالهم لينقر على اوتار القومية ويعزف ألحان ناشزة في العنجهية والتفاخر الجاهلي باعتبارهم من ذوي الدم الازرق فتشتعل عقولنا خصومات ومآثر مريضة ونرجسيات ضحلة حطمت حياتنا وأوغلت فينا قهرا وتدميرا يصعب ان يطاق، وقد لا نغالي اذا قلنا اننا تفوقنا على رزايا وبلايا القرون الوسطى في اوربا حينما كانت الكاثوليكية تفرض سطوتها وعنجهيتها بحيث رأفتْ حتى بالفئران.

ففي سنة / 1519 تناقل الطليان قصة شعبية طريفة فولكلورية غرائبية تختلف كثيرا عما يتداوله المصريون لما فيها من الرأفة والحنوّ يصل حتى الى القوارض الضارة المؤذية؛ اذ تقول الرواية إن تلك المخلوقات حوكمت في ايطاليا لانها عاثت بحقول الشعير وأمر القاضي بنفيها خارجا لكنه استثنى بعض إناثها الحوامل من النفي ريثما تضع حملها على سبيل الرأفة؛ اما المرحّلون فقد رافقتهم قطط لحراستهم حتى تجاوزت الحدود.

نحن في العراق وفي زمن الدكتاتورية كنا نتناقل في الخفاء وفي مجالسنا الخاصة قصة طريفة ايضا من باب الكوميديا السوداء عن الفئران ايضا ولا اعلم ان كانت مختلقة ام حقيقية ويبدو انها اقرب للتندّر والضحك على الشعوب المقهورة وكيفية تدجينها وسلبها إرادتها وتعطيل عقولها واشغالها بالترهات وإقناعها بحالها مهما كان مزريا.

يقال انه في احد اجتماعات القائد المسمى بالضرورة وربما توضح هذه القصة لماذا سمي بالضرورة حيث تم طرح موضوع ان يمنح الشعب فسحة من الديمقراطية واتاحة الفرص للاخرين ان يتسلموا زمام الحكم ومنها رئاسة الجمهورية ويبدو ان الرئيس الموقر وافق على هذا المقترح لكنه اشترط إحضار ثلاث علب تحوي كلا منها فأرا وفي اثناء الاجتماع يطلق سراح الفئران من العلب وما على الحاضرين الحاذقين الاّ ان يمسكوا الفئران ويضعوهن على الطاولة وتقف منتظمة دون حراك امام المجتمعين ليفوز بالرئاسة عن جدارة.

تنادى الجميع لامساك الفئران بعد فكاكها من العلب وامسكوها بعد جهد جهيد ووضعوها على الطاولة لكنهم فشلوا في ترتيب وقوفها بصف واحد وهي ساكنة فما ان يوقفوا الاول بانتظام حتى يهرع الثاني للقفز بعيدا ويدور الثالث بالمقلوب ليخرق الصف وكلما حاولوا إعادة تنظيمها تعود الى خلخلة الصف وإرباكه مجددا.

اخيرا وبعد مرور ساعات وقد يئس الجميع من إعادة تنظيمها؛ نظر الرئيس الى وجوههم ساخرا وأمرهم باعادتها الى العلب وأغلق إحكام غطائها وبدأ يهزها بقوة حتى بدأ الدوار والإنهاك يفعل فعله برؤوس وأجساد الفئران؛ بعدها فتح العلب وامسكها ووضعها بانتظام وصفٍّ واحد على الطاولة بكل سهولة دون ان تحرك ساكنا وقال مفاخرا: هكذا يجب ان تعامل شعوبنا، فانا القائد الاوحد الضرورة الذي يعرف كيف يوقع الملأ في مصيبة وما ان تنتهي حتى يتم تدبير مصيبة اخرى في اشغال الشعوب وتعطيل ادمغتها حتى تنسى حقوقها وترضى بواقعها على عواهنه وخرابه، هنا لابد ان اصنع حربا واختلق أزمات وابتكر أعداء كي ازجّ بشعبي وأشبعه صداعا وارميه في مطاحن الحروب وأسبب له حصارا وجوعا كي لايفكر يوما ما بانه مصدر السلطات وهو من يظنّ نفسه انه يختار قادته المؤهلين علما وتكنوقراطيا ومرانا ونزاهة وتدبيرا حسنا ؛ فالشعوب لاترضخ الا اذا سببتَ لها صداعا وخذلانا وانهاكا جسديا وذهنيا من خلال صناعة الفتنة واختلاق الازمات وتدويرها كي تتغلغل في نفوس الناس المكدودين المنهكين حتى تقاد بسهولة ويسر.

هكذا هي القاعدة العريضة التي تنتهجها النظم الدكتاتورية ذات النظام الواحد وغالبا ماتتعكز على الأطر القومية أو النعرة الدينية والاثنية كي تقف على اقدامها، انها تريد سلطةً لا دولة، تريد طاغيا لا راعيا، جائراً لا حانيا، وليس ببعيد ان نحشر يوما ما واحدا اثر آخر لحشرنا في مختبرات تجارب حالنا حال الفئران ونكون مادة للتشريح وتقطيع أوصالنا ليهنأ ساستنا ويشبعوا نزعاتهم الساديّة ونزواتهم العدوانية.

ما أحقر السلطة وما أنذلها لو اعتاشت على مآسي شعوبها وما أنبلها لو عملت على محو تلك المآسي وسعت نحو العيش الرغيد السعيد.
[email protected]