يقول المثل التركي: من يتردد بين مسجدين، يعود بلا صلاة. وربما كانهذا حال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في زيارته الأخيرة لبحث مساعي الحل للأزمة الخليجية التي يشكك المراقبون في انتهائها سريعا. 

وحيث إنني لا أريد أن أستخدم مع القارئين ما يعرف بـ "التشخيص" وهو أسلوب عالمي يستخدمه الإعلام والمخابرات والحكومات، ويعني أن يُبث في عقل المتلقي فكرة ما بغض النظر عن صحتها كي يبني المتلقي بقية فهمه للحديث أو المقال أو الإعلان على هذه السياق، كأن نقول "إن هناك أجندة تركية تعمل ضد المملكة" ثم لينساق فهم القارئ بقية الحديث بناء على هذه الفكرة.

ولكن دعوني أقول لكم: إن أي خلاف جوهري يرتكز بين الحكومات أو بين الشعوب أو بين الثقافات يكون اعتماده على إحدى هذين الأساسين: فهو إما يكون خلافا سياسيا، وإما يكون صراعا وجوديا.

الخلاف السياسي هو خلاف عارض وقد يكون مزمنا لكنه لا يتطلب وقتا طويلا لينشأ أو لينتهي، فقد يمر بين الحكومتين خلاف حدودي أو دبلوماسي كما حدث في حرب البريمي بين جميع أطرافها سنة 1950-1961, أو قد يكون منشأه ثقافيا أو شعوبيا، كما حدث في أزمة مصر والجزائر سنة 1989 و2009 إثر تصفيات كأس العالم. أو قد يكون خلافا سياسيا منشأه النهج الثقافي السياسي، كالخلافالواسع الذي حدث بين فكرة القومية العربية الناصرية ومناهضيها التي أدت لنشوب خلاف سياسي بين الحكومات العربية المؤيدة والمناهضة، لكن مرتكز هذا الخلاف السياسي لا يدوم أو يتجدد فيكل ما رأيناه هنا، لأنه باختصار ليس هناك أساس وجودي تنطلق منه هذه الخلافات.

أما النوع الآخر فهو أن يكون الخلاف صراعا وجوديا، وهو الذي يتشكل عبر مئات بل آلاف السنين، حيث هو صراع يستدعي الذاكرة الدينية والشعوبية والقومية على حد سواء، وأبرز مثال فيه هو الصراع العربي الإسرائيلي الذي قُوامه آلاف السنين بشأن الأحقية ببيتالمقدس، كما أن الخلاف العربي "السعودي" الإيراني هو صراع وجودي منذ قضاء المسلمين على الساسانيين سنة 644 ميلادية.

إذن: فالصراع الوجودي هو صراع دائم أو شبه دائم، يُغذَيه التاريخ وتتوارثه الأوطان بينما الخلاف السياسي هو خلاف مؤقت لا يغذيهالتاريخ ولا تشعله الشعوب.

وبالعودة إلى الملف التركي؛ فإن هناك خيطا حريريا تارة يأخذنا مع تركيا إلى الصراع الوجودي، وتارة يأخذنا معهم إلى الخلاف السياسي. فكيف ذلك؟

الصراع الوجودي السعودي التركي يعود في الأساس إلى سنة 1818بعد أن أطاح إبراهيم باشا ابن والي مصر العثماني محمد علي باشا بإمارة الدرعية التي توسعت حينها لتحكم معظم الجزيرة العربية، وقد شكل التحفظ على الإمام عبدالله بن سعود والذهاب به إلى مقر الخلافة العثمانية بإسطنبول وإعدامه هناك نقطة صراع وجودي بين العثمانيين والبيت السعودي حينها. ثم تشكل بعد ذلك صراعا آخر تمثل في نبذ أهالي الجزيرة العربية من القبائل وغيرهم للوجود العثماني خصوصا في مناطق الوسط والجنوب من شبه الجزيرة العربية أدى ذلك لنشوب نزاعات مسلحة ضد التواجد التركي لما وجده الأهالي من ظلم ومحاكمات وقتل واغتصابات للأراضي من قبل الحامية التركية المتمركزة في ثمان إمارات تتوزع على مناطق الجزيرة العربية حتى نهاية عام 1918. ولعل كتاب "ذاكرة الرواق وحلم المطبعة" كفيل أيضا بتوضيح الظلم العثماني للأهالي والحجيج فيماكان يسمى بولاية الحجاز.

وبعد أُفُول الدولة العثمانية في أكتوبر 1923, انطفأ الصراع الوجودي التركي العربي بشكل عام، وباتت الخلافات بين الحكومات العربية والتركية "إن وجدت" خلافات سياسية محضة، مؤقتة، ولا تدوم، لأنه ليس للجانبين مطامع توسعية أو وجودية، خصوصا بعد انحصار الدولة العثمانية إلى ما يعرف الآن بتركيا الحديثة.

وربما كانت الامور جيدة حتى طَرَقَ الرئيس أردوغان سياساتٍ غريبة هنا وهناك تُفضي بمجملها إلى نَفَسٍ عثماني جديد، فنشاط السياسة التركية في مصر إبان حكم الرئيس مرسي ودعمها المتفاني للإخوان هو ما خلق لأردوغان توهما حينها بإعادة التمدد التركي السياسي إلى الأمة العربية، الأمر الذي قوبل بالرفض من السعودية، لأن هذا قد يعيد الدفّة إلى الصراع الوجودي السابق.

ولعل إرسال الحامية التركية لقطر مؤخرا وبشكل سريع أمر قد قوبل بالرفض التام أيضا، ولكن بشكل بلغ حد التصريح الرسمي بذلك، وهو ما من شأنه إبقاء شعلة الخلاف حيّـةً.

كما أن عدم حضور الرئيس التركي للقمة الإسلامية الأمريكية أمر يوحي باستكبار سياسي تركي من تحت الطاولة، فقد سافر الرئيس أردوغان بطائرته قاطعا المحيطات لحضور جنازة الملاكم الأمريكي محمد علي كلاي في حزيران 2016 بولاية كنتاكي، فكيف يفوته حضور مثل هذه القمة!

ولكن فقد يكون الأمر شكليا فحسب، فالخلافات السياسية مع تركيا أمر وارد في السياسة العالمية كما مع أي دولة أخرى، لكن في النهاية سيكون على كاهل السنوات القريبة أن توضح أي نوع من الخلاف تسير فيه علاقات الطرفين.

وأخيرا: فحضور الملف القطري وملف إقليم كوردستان هو منطلقبسيط للباحث في قراءة العلاقات السعودية- العربية- التركية في الوقت الحاضر.

كاتب سياسي