لا ادري كيف نعبّر عن انفعالاتنا ونصرّح ونعجب بما يجري في محيطنا المجتمعي؛ هل نسخر ام نبكي ام نندب حظنا العاثر ونحن نرى طوفان الفساد يغمر بلادنا كلها ومن رأسها السلطوي حتى أخمص قدميها اذ لم تسلم حتى الرعية المسحوقة التي تعلمت واعتادت ان تحذو حذو قادتها وغدونا كالأسماك يأكل بعضه بعضا ؛ ولا احد يتصدى لهذه الموجات الهائلة من الجراد الصغير والكبير الذي نهم اليانع واليابس والاخضر وغير الاخضر حتى وصلت الصلافة والوقاحة ببعض المفسدين ان يعلنوا امام الملأ بدون ايّ استحياء في وسائل الاعلام انهم قبضوا رشىً جراء سكوتهم على مؤامرات سرقة وخفايا قومسيونات وتستّر على فضائح تهيظ العظم وتشيب الرأس.

بين فترة واخرى يطلع علينا مسؤول من حزب او كتلة سياسية معينة او عضو في السلطة التشريعية او التنفيذية لينشر الغسيل القذر لهذه الفئة او تلك الشخوص ويكشف امامنا مؤامرات وأهوال وسرقات مهوّلة ومفزعة ما انزل الله بها من سلطان عن غرائب مايجري تعدّت الخفاء وبدأت تظهر علناً ولم يعد هناك مايخيف وهي لاتعدو صراعات ديكة الفساد ليفضح احدهما الاخر كما تتخاصم اللصوص على المغانم وحصيلات المسروقات.

فالفساد ببلادي اصبح قاعدة اكثر من عريضة شملت الراعي والرعية والاعلى والاسفل والمتدين والمتمدن والليبرالي المتحرر والراديكالي المتزمت والرئيس والمرؤوس، وهناك من الشخوص العاملة في النزاهة سواء بالبرلمان او خارجه تحوم حولهم شبهات بالفساد ووصل الامر الى وصم القضاء العراقي وكوادره بالتورط في المفاسد وطمطمة ملفات المفسدين او تسويف البت فيها او حتى الخوف مما لاتحمد عقباه من مكائد تصل حد القتل والتصفيات الجسدية قد يقوم بها المفسدون ضد رجال القضاء فيما لو أصدروا الإدانات لسارقي المال العام.

كل ذلك مردّه الى الهوان والضعف الواضح والتدخل الفاضح من قبل السلطات التنفيذية والتشريعية والوزارات من اجل لوي ساعد القضاء وشلّ قدراته وبتر لسانه ونزع سيفه وسوطه من يديه وتجميد مواده وتشريعاته لاجل تقزيمه وبث الخوف في روحه لينأى بعيدا عن خطط الفساد الجهنمية وإعلاء شأن القيم العشائرية وفضّها بالطرق البدائية فيما لو انفضح السارق سواء كان وزيرا او مسؤولا كبيرا او نائبا برلمانيا اذ تقف العشيرة سدا مانعا ضد ايّ من اتباعهم لو عدّ من السارقين والمفسدين.

هذا مايحصل في وطني الواهن الخطى فلا تستطيع ان تلاحق محافظا حزم حقائبه بهدوء معلنا انه سيسافر قريبا كي يأخذ الجمل بما حمل ويلحقه محافظ اخر ليهرب هو الاخر بعد بضعة ايام من هروب المحافظ الاول ليحمل ذخيرة سرقاته دون ان يقف احد في طريقه ؛ فمسلك الهروب آمن ومحروس ودعوات الوصول بالسلامة بالأدعية والرجاء تتبع الهارب أينما اتجه وحيثما أزف سواء لوطنه الثاني الذي اكتسب جنسيته او لايّ بلد يلقى ترحابا وسعةً مادام ثقيل المال ومكتنز الثراء منفوخ الأرصدة المالية وهكذا دواليك يتسرب السارقون واحدا إثر آخر.
وانا اتذكر هذه المهازل القائمة في وطني المعنّى تداعى الى ذهني مشهد الرئيسة الكورية الجنوبية " بارك غوين هيه " المسماة سيدة كوريا الاولى وهي تُرمى في السجن بمركز سيئول للاحتجاز قبل بضعة شهور ( اوائل نيسان من هذا العام ) وتوضع في زنزانة لاتتعدى مساحتها قرابة عشرة امتار مربعة ومرأى بكائها وهي ترتدي زي السجينات الاخضر لتصبح الرقم ( 503 ) وتنسى اسمها اللامع الذائع الصيت الذي ردده قبل ذاك الملايين من انصارها ومحبيها الكثر وأوصلوها الى سدة الحكم رئيسة لكوريا الجنوبية.
لم يشفع لهذه السيدة الكبيرة ذات الخمسة والستين عاما انها جعلت بلادها ثاني اكبر اقتصاد في آسيا ورابع أقوى اقتصاد في العالم، ولم يشفع لها ايضا مقتل ابويها واغتيالهما، كل ذلك النضال والجهد الخارق لاجل بلادها ونمائها بهذا الشكل الذي نعرفه الان وقتل أمها وأبيها من قبل رجال مخابرات كوريا الشمالية العدو اللدود لشقيقتها الجنوبية.
تمّ رميها في السجن وتزودت ببعض العفش البسيط اللازم للسجين بطانية واحدة ووسادة صلبة مع صحنين للطعام وملعقة وشوكة وصينية والقليل من الاغراض الشخصية تمهيدا لصدور الحكم العادل بشأنها من قبل النيابة العامة.

كل ذنب هذه المرأة الرئيسة انها كانت تُدير -- اضافة الى وظيفتها الرئاسية -- جمعيات خيرية مدنية غير ربحية وقد تعرضت تلك الجمعيات الى ضائقة مالية مما اضطرها الى ان تدفع صديقةً لها للتفاوض مع احدى الشركات في بلادها من اجل التبرع للجمعيات التي تديرها كي تؤدي مهامها بصورة حسنة وتقف على قدميها وهي اصلا لاتهدف الى تحقيق منافع مادية ذاتية انما لمنفعة عامة مجتمعية لشريحة معينة من ابناء جلدتها لتعينهم في التخفيف عن كاهل بعض اهلها ممن يتطلب المساعدة وتقديم التسهيلات المادية والمعنوية والصحية وغيرها ؛ لكن الوسيلة الملتوية غير المشروعة من قبلها ومن قبل صديقتها اخذت منطقا خاطئا مما يحاسب عليها قانونيا.
اجل هكذا يتم محاسبة الفاسدين قضائيا واسترجاع حقوق الرعية المغلوبة على أمرها بدءا من القمة وانتهاء بالهوّة.

في بلادي سوف لن ينتهي الفساد الاّ بسواعد قانونية وسلطة تشريعية صلبة صلابة الفولاذ وحارقة كحريق السعير تبدأ من الرؤوس الكبيرة جذّا وقطافا لايرحم ؛ فالبيت لاينظف الاّ من اعلى سطحه نزولا الى الاسفل وتطهير الزوايا والبؤر الاخرى، وما سرقة الديدان الصغار وفسادهم الاّ صورة مشوهة لما يفعله الحيتان الكبار، فالصغار استلبت حقوقهم وأُخذت مستحقاتهم فلجأوا الى مدّ ايديهم الى بضاعة يحتاجونها في السوق بسبب جوعهم أو انتعال حذاء غير حذائهم من باب المسجد دون خوف من الوازع الديني العاجز ان يصدّ الانسان الجائع المنهك ؛ فالقانون الوضعي الصارم وحده من يستطيع الحدّ من تكاثر الفساد، والعقاب الاخروي الموعود لم تعد له الفعالية في مجتمع اعتاد ظاهرة الفساد واعتبرها حذلقة ودهاء نتيجة التدهور الاخلاقي وانحطاط القيم الى الدرك الاسفل.

اننا امام عدوٍّ اكثر من شرس ودنيء وغادر الى ابعد الحدود نسميه الفساد بجنوده ورعاعه الكثر وقد لا ابالغ لو قلت انه اكثر من داعش قذارةً وهمجية وتخريبا وقد بدأنا هنا في العراق بتحجيمها وتقطيع أوصال داعش وبتر أذرعها ولم يبق الاّ القليل القليل وماعلينا الآن سوى ان ندير فوهات البنادق ونوجّه أسلحتنا نحو خرتيت الفساد وقد حان الوقت لهذا العزم، فلنعدّ العدة والعدد وننتقي من مخلصينا وشرفائنا الشجعان مايكونوا في المقدمة فلم يعد التلكؤ والتسويف والتردد مسلكا صائبا امام أحابيله وسوءاته ودماره العاتي.
نحن ننتظر قريبا الوثبة الاولى للانقضاض على وحش الفساد ولو كان قويّا شرساً فلدينا ماهو أقوى وأمضى سلاحا مستمدا من قوة إرادة شعب سرقت ثرواته لكن إرادته وعزمه على الخلاص النهائي من الفساد محال ان تسرق.