عملية إقحام الدين في السياسة تأتي نتيجة لتقمص السياسي للديني الذي يقف وراء كل أشكال التحريف باسم التأويل الذي يلحق النص الديني لإكساب الممارسة السياسية شرعية الغيب المطلقة ولإعطاء المبرر للتصرف المطلق لحزب أو لتيار سياسي معينأو لقائد، فكأنه مبعوث من الله لإلغاء إمكانية قدرة البشر على تدبير امورهم، وكأن التدبير الذي يقوم به أولئك الأشخاص منزل من عند الله. والحقيقة أن الأمر ليس كذلك، فالبشر هم المعنيون بتدبير شؤون دنياهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية طبقا للقوانين والضوابط المتفق عليها والموثقة في الدساتير.

مناسبة هذا الحديث، هو انه قبل أيام من بدء الدعاية الرسمية للانتخابات الرئاسية المصرية، حرصت المؤسسات الدينية الرسمية وبعض الشيوخ - غير التابعين لهذه المؤسسات - على إصدار العديد من الفتاوى التي أكد مفتيها على ضرورة اتخاذ موقف لمصلحة النظام السياسي الحالي، سواء في ما يخص التصويت في الانتخابات الرئاسية المقبلة من عدمه، أو في ما يخص تأييد الرئيس "عبد الفتاح السيسي" دون غيره لولاية ثانية، الأمر الذي جعل البعض يصنف هذه الفتاوى بأنها لمصلحة النظام، وتخدم توجهاته، خاصة بعد دعوة التيارات المدنية إلى مقاطعة الانتخابات، وهو ما اعتبروه يصب في عدم نزاهة الانتخابات، ويدل على تورط المؤسسات الدينية في التبعية للسلطة، كما كان يحدث في عهد النظام السابق، أي عهد "حسني مبارك".

تفاوتت الفتاوى المؤيدة اغلبها الى الرئيس "السيسي" الصادرة من قبل بعض رجال الدين المصريين، نذكر بعضا منها بإيجاز:

"أن من لا يدلي بصوته خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة فهو آثم شرعا، مؤكدا أن الإسلام أوجب المشاركة الإيجابية في ما يخص مصير الدولة".

"التصويت في الانتخابات شهادة أمام الله، وأن من يترك هذه الشهادة (المقصود عدم النزول والتصويت في الانتخابات)، فهو آثم شرعا، لأنه كتم الشهادة.

"أن (الله) هو من أتى بالرئيس عبد الفتاح السيسي لرئاسة حكم مصر وقيادتها، وأنه لم يأت بنفسه للرئاسة، مستشهدا بقول الرسول (ص): لا يقع في ملك الله إلا ما يريد. هذه من أخطر الفتاوى المضللة، لأنها تشرعن لكل حاكم ظالم ومتسلط ان يقفز الى كرسي الحكم بأي وسيلة، ويبقى في السلطة يمارس ظلمه وتسلطه على العباد بإرادة من الله. 

الأدوات السياسية، التي من ضمنها الدساتير والقوانين الوضعية والتصويت والانتخابات البرلمانية والرئاسية، ليست قدرا من عند الله وليست وحيا أو تكليفا منه (جلت قدرته وعلا شأنه)، بل هي من صنع البشر، ولذلك فنشأتها أو زوالها أو استمرارها مرهون بالشروط المفرزة لها لارتباطها المباشر بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبناء على ذلك، فهي أدوات واقعية، والواقع متبدل ومتحول تبعا لتبدل هذه التحولاتالمتجسدة في البنيات التحتية والبنيات الفوقية للمجتمعات البشرية.

المجتمع العربي المعاصر هو جزء من العالم الحديث، لذا من الضروري لتقدمه أن يشاركه قيمه وتطلعاته وهمومه. فموضوع الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية هي من تراث البشرية جمعاء، وأي حديث عن "خصوصيات" عربية في هذه المجالات الحيوية والمصيرية تبدو حججا واهية، الهدف منه كما تظهر الوقائع، هو تبرير سلوك الحكام ضد المواطنين، بالسيطرة على مصيرهم وعدم إشراكهم فيما يخصهم من حقوق سياسية واقتصادية واجتماعية، والإبقاء على مصالح الطبقات الحاكمة وأعوانهم الذين ينهبون خيرات هذه البلدان ويستعبدون شعوبها.

تتدخل الحكومات العربية غير الديمقراطية في كل مستويات حياة شعوبها، توجه السياسة والاقتصاد والتعليم والفنون، وتجعل من الدين أداة دعاية لها. لقد حجمت هذه الحكومات إرادة الجماهير وجعلت منهم قطعانا يمكن تحريكها بسهولة أكبر. كما أبعدت هذه الحكومات شعوبها عن المشاركة الحقيقية والفعالة في السياسية منذ رحيل الاستعمار في منتصف القرن الماضي، وأوجدت أجيالا من المسيرين المطيعين لتقديس حكامها والرضوخ لهم دون أي مساءلة او محاسبة.

عدم ممارسة الديمقراطية الحقيقية لفترة طويلة أوجد فراغا هائلا في فكر وثقافة المواطن العربي. هناك "أميّة سياسية" واضحة في عقل وفكر المواطن العربي. مفردات مثل: التداول السلمي للسلطة وتشكيل أحزاب سياسية على أسس وطنية ومؤسسات مجتمع مدني فاعلة لا وجود لها في قواميس الحكام العرب، كما ان حرية التعبير والنقد البناء والايجابي غير مرحب بهما، وقد يعتبران إهانة او مساس بالذات الشخصية للحاكم يعاقب عليها بالقانون