طالما تختار الدولة المصرية أهل الثقة لا أهل الخبرة لن ييصلح حال الإعلام في مصر ، فشلت الدولة في اصلاح إعلامها الرسمي وتركت مبنى الإذاعة المعروف بماسبيرو ينهار ، واقتنعت بأنه لا جدوى من ضخ الأموال للتطوير ، وتركز الصرف على الأجور ومرتبات العاملين فيه والتي تقدر ب220 مليون جنيه شهريا ، ناهيك عن كم الأموال التي سرقها لصوص المال العام بدعوى التطوير ، وحين اتجهت الدولة لدعم الإعلام الخاص أنفقت المليارات ، ولم تثمر التجربة ثمارها بسبب الفساد وسوء الاختيار لرجال أعمال لا يهمهم سوى مصالحهم فانفقت بسفه دون جدوى ، والأمثلة كثيرة في شبكات تليفزيونية خاصة تنتقل من رجل أعمال إلى أخر دون جدوى.

ولا يمكن الحديث عن حل لأزمة الإعلام المصرى بعيدا عن ماسبيرو ، هذه المؤسسة العريقة التي بدأت البث في 21 يوليو 1960 لتواكب الاحتفال بالذكرى الثامة لثورة يوليو، وظل ماسبيرو القوة الناعمة المؤثرة في العالم العربي حتى وقت قريب قبل نحو عقدين حيث لم تكن هناك محطات إذاعية وتليفزيونية منافسة لمصر.

قبلها كانت الإذاعة المصرية التي بدأت بثها رسميا في 31 مايو 1934 صاحبة الدور الأهم فى تقديم الثقافة الجادة ، ودعمت ثورات التحرر من الاستعمار فى كل الدول العربية والإفريقية، ولعبت إذاعة صوت العرب الدور الأبرز بجانب الإذاعات الموجهة ، وكانت القاهرة مصدر اشعاع حضاري بالفن الراقى من مسرح وغناء، ونشرت صحيح الدين عبر رموز مصرية مدركة لدورها ولمسئوليتها.

من مبنى ماسبيرو خرجت أجيال من الإعلاميين ساهمت في نشر الوعي والنهوض بالأمة وتحريرها من الجهل لكن الحال لم يدم طويلا ، تغيرت الاحوال وبتنا أمام واقع جديد جعل الدولة تهجر هذا الصرح العملاق وتتركه فريسة للإهمال واللفوضى .

اهم تجليات هذا الواقع هو خروج محطات وشبكات تليفزيونية من دول بإمكانيات مالية كبيرة فرضت واقعا جديدا وغيرت قواعد وقيم الإعلام ، وبات رأس المال هو المسيطر وتراجعت الرسالة الإعلامية وتحول الإعلام إلى تجارة ودخلت فيه السياسة من أجل نفوذ وأدوار معينة واستقطبت هذه المحطات خبرات من ماسبيرو باغراءات مادية ، وخرجت حشود من هذا المبنى للعمل في هذه الكيانات الناشئة ، ونجحت الشركات العاملة مع هذه الكيانات في السطو على الفن المصري فظهرت أافلام المقاولات ، وتبدل سوق الغناء، وظهرت شركات احتكار للفنانين، وقدمت انتاجا على أسس تجارية لا إبداعية ، وأمام هذا الطوفان تراجع ماسبيرو وأصبح يواجه تحديات فى الإنتاج لأنه لا يستطيع أن يجارى الكيانات المنافسة فضلا عن تراكم الديون التي تجاوزت ال20 مليار جنيه.

وبدلا من أن تسعى الدولة لإنقاذ ماسبيرو وتفكر في حلول، تركته غارقا فى أزماته وديونه ، ولم تحاول أن تمد له يد العون وذهبت فى طريق إنشاء مؤسسات إعلامية بديلة دفعت فيها مليارات الجنيهات، ولم تنجح هذه المؤسسات الجديدة فى أن تكون البديل المناسب لماسبيرو ، وظهرت الدعوات لخصخصة المبنى وبيعه بعد ان سمعنا عن كلام ووعود من الدولة عن تطويره وهيكلته أو تشجيع المعاش المبكر لمن بلغ سن الخمسين وتأهيل العمالة الزائدة في مواقع أخرى ولكن لم تنفذ هذه الوعود. 

أزمة ماسبيرو إذن لا تنفصل أبدا عن أزمة الإعلام المصرى ولن ينصلح حال الإعلام المصري ما لم يتم انقاذ هذا الصرح الكبير وتسوية الديون والتخلص من العمالة الزائدة حتى يستعيد دوره وتأثيره ونفوذه بعد أن فقدت مصر القوة الناعمة في محيطها العربي.