مشهد الوعاظ والمنبريين الذين ترجلوا عن منابرهم وقصدوا السوق بحثا عن أوعية استثمارية ( إما عبر الاستثمار في المريدين والجماهير للدعاية للعطور و الرز و مكاتب استقدام الخادمات , أو توظيف المهارات الخطابية التي اكتسبوها عبر عقود من تسنم المنابر , للتتحول الخطب إلى جزء من ورش عمل في تطوير الذات والتغلب على القلق ) بات مألوفا.

قد يمر هذا المشهد فلا نكترث له ولا يستوقفنا , على حين هو قطعة فسيفساء في لوحه كبرى تسقط لينبت خلفها مشهد مغاير,أحدى التحولات البشرية الكبرى التي تحدث ببطء دون أن نفطن لها. 

فهناك عالم يشرف على الانهيار وتأخذه الأزمنة السائلة في طوفانها, لتبزغ النيو ليبرالية مشهرة عن شروطها المبتزة :-

 - عصر السوق و الاستهلاك وتسليع العالم , وهو سمة واضحة للثقافة الاستهلاكية عندما تصبح السلع والكماليات حاجة نفسية وذهنية حتى بات الخطاب الديني بذاته رأس مال قابل للتسويق والانفتاح على اقتصاد السوق مابين عرض وطلب واستثمار في النجومية . 

-إن كانت الليبرالية القديمة تشرع جميع بوابات الحرية للسوق (تحت شعار دعه يعمل دعه يمر) مؤمنة بأخلاقيات السوق القائمة على الهيمنة والاستحواذ , إلا إن الليبرالية الجديدة التي تعود الآن تحضر بشكل أقوى وأشرس تدمر كل حصون العمل الاجتماعي والإنساني التي حاولت من خلاله المجتمعات أن تحمي الفئات الضعيفة والهشة داخلها. 

- النيو ليبرالية تحتفي بالفردانية , ومن هنا ستتفكك المرجعيات المؤسسية الكبرى حتى داخل أكثر المجتمعات محافظة وتقليدية , ومن أبرزها مرجعيات المؤسسة الدينية , فيتحلل الواعظ من بعض المسؤوليات سواء تلك التي تفرضها هيبة المنبر , أو موقعه داخل تراتبية هيكل المؤسسة الدينية , ويستبدلها بقيم السوق والعرض والطلب.

-التبدل والتغيير هما أكثر القوانين ثباتا في زمن النيوليبرالية , والأنماط الاجتماعية التي عززت أنماط سلوك مقدس ومقبول ورائج في السابق , لم تعد قادرة على البقاء , وعجلة الزمن تخضعها للتحلل والانصهار , فهي الأزمنة السائلة التي يصفها الفيلسوف باومان في كتابه الأزمنة السائلة بأنها (تبلغ من الميوعة وسرعة الزوال ما يحول دون اتخاذها شكلا صلبا مميزا يشكل إطارا مرجعيا للهوية ) . 

 

-تيار الإسلام السياسي بعد أن استنفد أدواته وبات يتحرك في المربع الأخير في قلعته المتهاوية, أصبح يبحث عن حواضن جديدة يستطيع أن يعيش من خلالها ويحافظ على بعض مكتساباته الجماهيرية السابقة , وبما إنه يلتقي مع حركة العصر الجديد ( وهي الحركة الروحانية شبه الدينية والتي نشأت بعد أن اكتشف إنسان العصر الجديد عجزه عن قطع المسيرة وحيدا بصحبة العلم البارد القاسي , فظهرت هذه الحركة في النصف الثاني من القرن العشرين وتلقى رواجا كبيرا في الغرب , متضمنة الميتافيزيقا الروحانية الشرقية , وشذرات من تطوير الذات , وعلم النفس , والباراسيكولوجي والفيزياء الكمية ) حيث استثمر وعاظ الأمس في المشترك الخرافي الأسطوري بين مكون العصر الجديد وخطابهم السابق بحيث يضمنون تحول خطابهم الوعظي إلى خطاب مربح ورأسمال قابل للتسويق على الجماهير المتعطشة إلى أجوبة لأسئلة الكون الكبرى.