نستخدم هنا مفردة مأزق ونقرنه بمفهوم الانتخابي، ذلك لأن العراق حديث عهد بنشاط وممارسة، إحدى مظاهر السلوك الديموقراطي والثقافة الديموقراطية. الأ وهو الفعل الانتخابي حيث يعيش الشعب العراقي وفئة الناخبين على وجه التحديد، في مأزق حقيقي يتمثل بعدم الاستيعاب الكامل لطبيعة العملية الانتخابية وآلياتها الصحيحة، خاصة بعد مروره بتجارب مرة على امتداد خمسة عشر عاماً، وبعدد من الدورات الانتخابية التي حافظت على الشكل وخانت الجوهر. فالوجوه هي ذات الوجوه، وهناك غياب للبرنامج الانتخابي الحقيقي وتلون الخطاب السياسي واعتماد أساليب غير شريفة أو غير متكافئة في التعاطي من مجتمع الناخبين. أما الشطر الثاني من العنوان وهو وقوع عراق اليوم ومجتمعه بين نمطين اجتماعيين، وطريقتي حياة متباينتين، وأنا هنا بصدد التشخيص وليس الحكم والتقييم، وأعني بذلك نمط الحياة المدينية أو الحضرية، ونمط الحياة القروية أو الريفية، بكل ما تنطوي عليه من اختلافات في التشخيص والمقاربة لمظاهر الحياة، كالعلاقة مع مفهوم النظافة والجمال وجمالية الأماكن، على سبيل المثال لا الحصر.الحديث عن الانتخابات يقتضي الخوض في السياسة رغم المحظورات والممنوعات والمخاطر والحساسية الملازمة لهذا النشاط، في حين أن الحديث عن الريف والمدينة يقتضي الخوض في مجال البحوث الأنثروبولوجية والسوسيولوجية لتشخيص العلة. نقطة الانطلاق التي ستبنى عليها هذه المقاربة هي الثالوث المحرم على حد تعبير بوعلي ياسين وأعني بذلك الجنس والسياسة والدين حيث التعاطي معها يستدعي الحذر من ردود الأفعال العنيفة.

ولندخل في صلب الموضوع وباختصار شديد:

عاش العراق تجربة ديموقراطية انتخابية متواضعة وشكلية اقتصرت على النخبة في بداية تاسيس الدولة العراقية، وسرعان ما انتكست تلك التجربة اليتيمة بعد التغيير الفوقي في طبيعة النظام القائم وتأسيس الجمهورية الفتية التي كانت محكومة بطبقة العسكر وصراع الأحزاب السياسية، المتحاربة فيما بينها.كان الشعب العراقي بغاليبته الساحقة مغيب عن الفعل الانتخابي الحقيقي وكان يساق وفق أنساق التمييز المجتمعي آنذاك وأعني بذلك تعامل السياسيين والمرشحين مع الرؤوس المجتمعية فقط، في صياغة برامجهم السياسية والانتخابية، وأقصد بذلك رؤوساء العشائر والإقطاعيين والوجهاء الذين كانت مهمتهم، بعد التوصل إلى اتفاقات وتفاهمات مسبقة معهم على أساس المصالح والمكاسب المترتبة على مواقفهم، هي جلبهم لأكبر عدد من الأصوات الانتخابية لمن يتبعهم من عمال وفلاحين وأفراد عشيرة الخ وهو الأمر الذي نطلق عليه في علم الأنثروبولوجيا " إدارة القطيع". ثم دخل العراق في مرحلة " حكم العسكر" القاتمة والعنيفة والدموية، والتي لا مكان فيها للديموقراطية والانتخاب والتعبير عن الرأي وحرية الاعتقاد وحقوق الإنسان وغير ذلك من المفاهيم الحضارية. عاش الشعب برمته تحت سلطة وهيمنة حكم الفرد التسلطي وبدأ مايمكن أن نطلق عليه تعبير " صناعة الطغاة" لا أريد أن أطيل واستطرد في الحديث عن تلك الحقبة الزمنية في تاريخ العراق المعاصر المحصورة بين 1958 و 2003، لأنكم جميعكم عاصرتموها وعشتم إرهاصاتها بكل كيانكم.

لقد تفوق النظام السابق على كل أقرانه في المنطقة في أشكال التعسف والقسوة والبطش والقمع والحرمان وإشاعة الظلم واللاعدالة الإجتماعية والمظلومية، واضع هذه الأخيرة بين قوسين لما لها من دور مؤثر وتأويلات متعددة انعكست على طبيعة الانسجام والتناغم المجتمعي ما بعد التغيير، فكل ما يجري يبرر بذريعة المظلومية التي تعرضت لها فئات مجتمعية بعينها.

الحروب والحصار والخوف والترهيب شلت ملكة التفكير بالحرية وإمكانية المطالبة بالديموقراطية لدى السواد الأعظم من مكونات الشعب العراقي. وانقسم الشعب العراقي إلى مجتمعين متمايزين هما عراقيوا الداخل وعراقيوا الخارج وكانا يختلفان في كل شيء تقريباً وأنا أتحدث هنا عن تجربة شخصية ملموسة عشتها بنفسي وعانيت من تداعياتها. وأعتقد أن لديكم العديد من التساؤولات والاستفسارات والاعتراضات على مثل هذا التشخيص، سأكون سعيدا في الخوص فيها بعد الانتهاء من الطرح والعرض.

جاءت الانعطافة الحاسمة في كيان المجتمع العراقي، الذي كان متشوقاً للخروج من الظلام والظلامية إلى آفاق الانعتاق والحرية والازدهار واكتشاف العالم الخارجي الذي كان مقطوعاً عنه طيلة عقود وكان يتوهم أن " الكوادر القادمة من الخارج" برفقة قوة التغيير العسكرية الأمريكية، سيجلبون معهم خبراتهم وتجاربهم ونمط الحياة التي عاشوها في الخارج باعتبارهم كوادر تكنوقراطية كفوءة ومحلصة ونزيهة ومستقيمة لتعيد بناء هذا الوطن المحطم بفعل عقود القطيعة والحرمان والبطش والخوف والتشاؤوم والإحباط وغياب المستقبل الزاهر، واعتقدوا أنه آن الأوان للتفاؤول والتحول إلى مجتمع عصري مرفه على غرار ما تعيشه شعوب الخليج العربي المجاورة.

حدثت خيبة أمل تشبه الانتكاسة النفسية والمعنوية وشاع الإحباط والخوف من المجهول وعاد التشاؤوم والانتظار والإتكالية، بعد أن انكشفت حقيقة " القادمين من الخارج" والمتسلطين على قدر العراق والماسكين بالسلطات الحقيقية فيه، لأنهم لم يجلبوا سوى المظاهر الخداعة والقشور التي لم يالفوها هم أنفسهم رغم سنوات المنفى الطويلة، وكل ما مارسوه هو مظهر شكلي من مظاهر الديموقراطية، وأعني به " الفعل الانتخابي" وتنظيم كرنفال الذهاب الى صناديق الاقتراع" لا أكثر، في حين لا يزال المجتمع يفتقد للثقافة والممارسة الديموقراطية الحقيقية المتعارف عليها في الدول المتقدمة. والأدهى من ذلك أن هذه الفئة المهيمنة والمحتكرة لمقدرات البلد وثرواته بشراهة منقطعة النظير، قد لجأت لسلاح الدين وتسييس الدين وفق مصالحها فسنت القوانين والتشريعات الملائمة لها والتي تؤمن لها مصالحها لأمد طويل ولقد تجلى ذلك بوضوح من خلال تبنيها لنظام المحاصصة الطائفية الذي اقترحه الأمريكيون بغية إحلال التوازن المجتمعي المتشظي والمتنافر والمتخاصم كما كانوا ولا يزالوا يعتقدون. أما الأدوات والآليات التي مكنتهم من تنفيذ هذا المخطط الجهنمي فهي إشاعة الفساد واللصوية والنهب والتجهيل والمحسوبية والمنوسبية وشراء الذمم واستغلال الاحتياجات المجتمعية كالتلويح بالتعيينات وتقديم المنح والمساعدات المالية وغير المالية لكسب تعاطف وولاءات أكبر عدد من الأصوات وبالتالي عدنا لنفس المفهوم السابق الذي أسميناه فيعلم الأنثروبولوجيا بــ " إدارة القطيع"، ولكن بآليات وأساليب أخرى أكثر فعالية، بما في ذلك استغلال الدين والمؤسسات الدينية ورجال الدين وكذلك العودة الجامحة لسلطة العشائر التي صارت تتحكم بكل شيء في التنظيم المجتمعي بديلاً عن الدول والقانون.

يجرنا هذا التشخيص إلى الانتقال نحو الشق الثاني للعنوان وهي الربف والمدينة. كلكم يعرف أن سلطة العشائر كانت في السابق تتركز في الغالب العام في الأرياف والمناطق المحيطة بالحواضر المدينية، لكنها زحفت في العقود الثلاثة الماضية نحو مراكز المدن وغيرت من التركيبة الديموغرافية والتوازن السكاني حيث غدا الحضور الريفي طاغياً في المدن في كل قطاعات الحياة وبات واضحاً أن مفاتيح السلطة والمواقع التنفيذية والتشريعية في المدن باتت بين ايدي شخصيات سياسية وسياسية تنحدر من الأرياف وبدفع وحماية وتحشيد ودعم من قبل العشائر. و لاننسى أن الغلبة العددية لأبناء الريف على أبناء المدن هو الذي يحدد مسار العملية السياسية والانتخابية في العراق اليوم. لا بد من الإشارة إلى أمر مهم يتعلق بدرجة ومستوى الوعي لدى المنظومة السكانية الريفية الذي هو على نحو عام أدنى مستوى منه لدى المنظومة السكانية المدينية. فلقد تم " ترييف" المدن على نحو تدريجي بفعل نقل عادات وتقاليد ونمط حياة الريف الى المدن مما أثار حفيظة سكان المدن وامتعاضهم ولم يعد بوسع سكان المدن اختيار شخصيات مدينية لإدارة الدوائر والإدارات العامة في المحافظات ومراكز المدن. سيما وأن طبيعة العلاقات المجتمعية في المدن تغيرت وصارت تتحكم فيها التسويات العشائرية في كافة مناحي الحياة تقريباً، سيما عودة ما يعرف بــ " الفصل العشائري".

على ضوء ذلك يطرح التساؤول المشروع التالي" هل هناك فائدة من الانتخابات طالما كانت نتائجها محسومة سلفاً تقريباً؟ وكلنا نعرف أن الطبقة السياسية الحاكمة تتحكم بمفوضية الانتخابات وبقانون الانتخابات مما يصب في صالحها في نهاية المطاف مهما كان موقف الراي العام العراقي منها. وهل هناك جدوى من الذهاب إلى صناديق الاقتراع إذا كانت أصوات الناخبين سوف تسرق أو تزور أو لا تؤخذ بالحسبان؟

لا بد من القول أن الفعل الانتخابي ليس منة أو مكرمة من السلطة للمواطن بل هو حق قانوني ودستوري للتعبير عن موقف المواطن تجاه حكامه و لايجب أن يخضع لأي ضغط أو ابتزاز أو تغريرأو مساومة. ومن حق المواطن أن يدلي بصوته بحرية تامة، وبالتالي حقه في إيصال من يثق به ويختاره إلى مواقع السلطة التشريعية والتنفيذية، أو على الأقل خلق معارضة دستورية وبرلمانية شرعية قوية لتقف في مواجهة السلطة ومنعها من الانزلاق نحو الدكتاتورية والشمولية وإساءة معاملة الواطن والتقصير في تقديم الخدمات وتوفير سبل الرفاعية والعيش الكريم للشعب العراقي.

لذا لا بد من وجود قوة سياسية برلمانية قوية معارضة للأغلبية الحاكمة و لا يتم ذلك إلا من خلال الاقتراع والمشاركة الكثيفة والفعالة من قبل المجتمع المدني لتغيير موازين القوى، أو تنظيم تحرك شعبي يتخذ شكل العصيان المدني والاعتصام أمام مراكز الاقتراع للفت انتباه وسائل الإعلام العالمية لإحراج الحكومة وتقويض شرعيتها وهو أمر مستبعد في الوقت الحاضر.