هل استنفدت العولمة كل طاقاتها ووصلت إلى الباب المسدود؟ لماذا لم تحقق العولمة كل الأحلام التي رافقت النقاش الصاخب الذي عرفناه في التسعينات من القرن الماضي حول بزوغ فجر جديد من الازدهار يتمثل في استعمال التكنولوجيا والتطورات الصناعية الجديدة والمنتوجات المالية المتطورة من أجل التغلب على الفقر والأوبئة والتهميش وخلق عالم جديد يعمه السلم والتضامن والحرية؟ ما السبب في نمو النزعات الحمائية والخطاب الشعبوي العنصري ذي الحمولات القومية في وقت صار فيه العالم متداخلا ومتشابكا بشكل لم نشهده من قبل في أي فترة من تاريخ الإنسانية؟ ما هو تأثير التغيرات المناخية وتدهور المنظومات الإيكولوجية في إرباك التوزازنات المجتمعية والسياسية التي أدت إلى الحروب في الشرق الاوسط وإفريقيا وآسيا وإلى النزوح الجماعي من بورما وسوريا وووسط وغرب إفريقيا نحو أوربا وغيرها والتي خلقت ردود فعل قوية كان لها صدى سياسيا مدويا في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا والنمسا وهولندا وهنغاريا والدانمارك وإيطاليا وغيرها؟ هل من الممكن إعادة صياغة مشروع العولمة بطريقة تضمن بروز نظام عادل تجاه دول الجنوب ولكنه يتفاعل إيجابيا مع مخاوف العمال والأسر في دول الشمال التي فقدت شغلها ونمط عيشها نتيجة الانتقال إلى النظام الآلي للإنتاج، ونتيجة إعادة توطين المقاولات إلى المكسيك والصين والهند وتركيا وشمال إفريقيا حيث اليد العاملة غير مكلفة والقوانين غير مجحفة؟ 

تلكم الأسئلة التي تنوي المنظمة العالمية للتنمية طرحها على المستوى الدولي بهدف تأطير النقاش وتركيزه حول ضرورة إعادة التفكير والنظر في مسلسل العولمة واستقصاء المقاربات لخلق نظام جديد أكثر عدلا وإنصافا وأكثر ضمانا للاستقرار. بشراكة مع نادي مدريد (وهو منظمة تضم في عضويتها رؤساء الدول والحكومات السابقين المنتخبين بطريقة ديمقراطية) ستقوم المنظمة الدولية للتنمية بتنظيم ندوات ولقاءات ونقاشات على هامش اجتماعات دول العشرين، وأجندة 2030، واجتماعات الكوب، ودافوس، والذكرى السبعين لإنشاء الأمم المتحدة، وغيرها من أجل خلق إجماع دولي حول أجندة جديدة للعولمة والتنمية على المستوى الدولي. المنظمة العالمية للتنمية لها من الخبرة والتجربة والسمعة ما يؤهلها، بشراكة مع نادي مدريد، لطرح هذه القضايا التي أصبحت ملحة الآن أكثر من أي وقت مضى. 

تحليل الوضع الراهن للعولمة يعطينا صورة لعالم متداخل اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بشكل قوي ولكنه منقسم على نفسه بين من يرون في العولمة فرصة لتنمية الاقتصادالعالمي وخلق فرص الشغل والتغلب على المجاعة والفقر والتهميش من جهة، ومن ينظرون إليها كوسيلة لتهريب فرص الشغل إلى الخارج (اليمين والقوميون الجدد) أو كنظام تستفيد منه بشكل أكبر الشركات العملاقة والمتعددة الجنسيات والتي تضيق الخناق على المنتجين المحليين والمقاولات الصغرى المحلية (اليسار ومناهضو العولمة).

الحقيقة هي أن العولمة ساعدت في التخفيف من حدة الفقر وخلقت الملايين من مناصب الشغل وسهلت الولوج الى التمويلات. وصحيح كذلك أن العالم أصبح يعرف تداخلا لا مثيل له في السابق، وهذا التداخل يهم جميع مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية. وصل تدفق البضائع والخدمات والمال إلى حوالي 36 % من الناتج الداخلي العام العالمي سنة 2014 وتضاعفت التجارة بين دول الجنوب عشرين مرة منذ 1990 ووصلت إلى أربعة تريليونات (حسب تقرير ماكينزي السنوي حول "التدفقات العالمية"). و ساهمت هذه التدفقات في الحد من فقر الملايين وإيجاد الشغل للكثير عبر العالم. 

ولكن هذه التطورات لا تعكس الواقع برمته. لازال ثمانمائة مليون شخص يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، واستمرار الفوارق وتفاقمها في كثير من الحالات، والتأثير السلبي للتغيرات المناخية في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا الوسطى يهدد الاستقرار السياسي في كثير من البلدان، وأدى إلى أزمات إنسانية ونزوح جماعي غير مسبوق، وخلق تحديات للعديد من الدول من حيث التعاطي مع إشكالية الهجرة واللجوء السياسي. أضف إلى هذا أن الديمقراطية وعمل المنظمات الدولية ومصداقية الاتفاقيات المتعددة الأطراف أصبحت مهددة مع صعود الشعبوية ذات النزعة القومية وما رافقها من انطواء على الذات ومعاداة للأجانب، وهي توجهات تبرر وجودها بتدني الأجور وانسداد أفق التشغيل نظرا لإعادة توطين المقاولات أو المرور إلى نمط الإنتاج الآلي. 

في مواجهة هذا الواقع بتعقيداته، يبدو أن مفاهيم "التنمية" و "التنمية الدولية" " و"مواكبة تنمية" دول الجنوب تحتاج إلى إعادة نظر عميقة، خصوصا مع دخول لاعبين جدد من دول الجنوب ومن القطاع الخاص والمنظمات الخيرية. إن البارديغمات الحالية التي تتناوب على السلطة والمتمثلة إما في "وضع الثقة في السوق" أو "الدولة هي وحدها القادرة على القيام بذلك" أصبحت محط العديد من التساؤلات، خصوصا وأن المجموعات والشعوب صارت تبدع طرقا جديدة للتعامل مع المشاكل والتظلمات المرتبطة بالفقر، والأوبئة والتهميش. أصبح الكثير يدركون أن التنمية هي مرتبطة بالسياسة في بعدها الوطني والإقليمي والدولي. 

 

تباين الآراء وتقاطعها وتعارضها لا تسهل من مأمورية

فهم مستقبل العولمة. يقول البعض إن العولمة الاقتصادية، في ظل وجود تمركز قوي للشركات وظهور فاعلين جدد عابرين للقارات، تسببت في إضعاف سيادة الأمم وأصبحت معها الحكومات ضعيفة في التصدي للتحديات التي تواجهها. في نفس الوقت، يرى الكثير أن تدني وضعف الأجور والتركيز المتنامي للثروة والأصول في أيدي أقلية عبر العالم، والتغيير الحاصل في دور النوع الاجتماعي على مستوى تركيبة اليد العاملة، وإعادة تنظيم سلاسل التموين، وفقدان الشغل جراء سيطرة النمط الآلي للإنتاج وعولمة أسواق الشغل، كلها أدت إلى ارتفاع حدة اللامساواة وتآكل القدرة الشرائية للعمال.

 

في نفس الوقت، يؤكد آخرون أن إعادة توطين الأعمال والمقاولات خارج دول الشمال في المكسيك والهند والصين وجنوب شرق آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية قد ساهمت في تشغيل عشرات الألاف من اليد العاملة وساهمت في الرفع من وفرة المواد الاستهلاكية المنخفضة التكلفة في أسواق دول الجنوب. يعترف الكل بأن التحولات التكنولوجية الكبرى والتغيرات التي تعرفها أنماط الإنتاج، والدور المتنامي للإنتاج المعتمد على الآلة، والأدوار الجديدة التي يلعبها العمال في اقتصاد مرقمن ومعولم بشكل كبير، خلقت فرصا عديدة واضطرابات وتحديات في الوقت نفسه. 

 

إن التوترات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها العالم أصبحت أكثر تعقيدا جراء ارتفاع حدة التحديات المرتبطة بصراع الهويات والثقافات والتي يلهب فتيلها، ولو جزئيا، التأثير المجانس والطامس للاختلاف للنمط الحالي للعولمة، وعدم قدرة بعض المجموعات على تجاوز الصدمات المتعلقة بالحداثة. بينما تهز العمليات الإرهابية أركان المعمور، يحاول الملايين إيجاد حياة جديدة وملاجيء بعيدا عن لغة الرصاص والحرب والعنف، في وقت أصبحت فيه الكثير من المجتمعات منغلقة على نفسها وتنظر بعين الريبة والخوف للتعدد والتنوع. الانطواء على الذات وعدم القدرة على الحوار والبحث عن الأرضيات المشتركة صار باد للعيان في الأجندات السياسية لكثير من الفاعلين والأحزاب والحركات. 

 

كل هذا يعني أن مهمة من يعنيهم أمر التنمية حاليا هو التأكد من أن العولمة تخدم مصالح الإنسان ولا تنتج أنماطا جديدة من الهيمنة، والتسلط، والاسيتلاب، والتهميش في "شمال العالم" و "جنوب العالم" على حد سواء. مهمتنا هي العمل من أجل نظام جديد للعولمة يهدف إلى وضع أسس عالم أكثر إنسية و ازدهارا واستدامة، ويتجاوب مع مخاوف العامل في "شمال العالم" الذي يظن بأن إعادة التوطين والاستعانة بقدرات خارجية والهجرة تضر بمصالحه، والإحباط الذي يصيب الفلاح والمقاول الصغير في "جنوب العالم" والذي لا يمكن له بيع منتوجاته في الأسواق المحلية والإقليمية لأن المنتوجات المدعمة غزت كل الأسواق.

 

بدون حلول جديدة، سنواجه أزمه قيادة وريادة على المستوى الدولي، حيث يتوارى الإجماع البناء لصالح حلقة مفرغة تحاول بموجبها قوى شعبوية حاملة لأفكار متطرفة الصعود للسلطة، محمولة على أكتاف ناخبين غاضبين على الوضع ومحبطين، بينما تحاول القوى التقليدية تبني خطاب سياسي ذي نزعة انقسامية للحفاظ على جاذبيتها. 

 

تقترح المنظمة العالمية للتنمية مجموعة من الأنشطة المتداخلة فيما بينها من أجل توسيع النقاش وتسهيل المعالجة المتعددة المشارب والمتعددة الفاعلين للوصول إلى مخرجات عملية واقتراحات تسهل مواجهة تحديات العولمة. وسنحاول من خلال هذا تجاوز النزعة السجالية، وأساليب الحوار شمال-جنوب التقليدية، والفاعلين المعروفين، لضمان إشراك عدد متنوع ممن يهمهم الأمر، بما فيها المجموعات الدينية ذات الفكر المتقدم، والمقاولين والشباب، بالإضافة إلى رواد الفكر من أجل استكشاف استراتيجيات جديدة للتصدي لنزاعات الماضي والخاضر والمستقبل.

بشراكة مع نادي مدريد، تنوي المنظمة الدولية للتنمية تنظيم حوارات وطنية وجهوية ودولية، ونشر أعداد خاصة بمجلتها "التنمية" والتدشين لحملات على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، لتحليل وتبادل الآراء حول هذه المواضيع المعقدة 

والوصول إلى مساهمات عملية في الحوارات والمسلسلات المتعددة الأطراف، خصوصا "مجموعة العشرين" في بوينوس أيريس وما بعدها، وعملية تتبع واستعراض أجندة 2030 للتنمية المستدامة، و"المنتدى السياسي الرفيع المستوى" الخاص بها، والحوارات الدولية حول "تمويل التنمية"، واستعراض عمل الأمم المتحدة بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسها سنة 2020. نتمنى وضع الأسس لمسارات عملية يتم التداول والتواصل بشأنها مركزين على أربعة مواضيع وهي: 

 

أولا، دمقرطة الحكامة الاقتصادية: الانطلاق من عمل المنظمة كميسر ومسهل لمسلسل "تمويل التنمية"؛ سيتوج هذا المسار باقتراحات عملية فيما يخص "تمويل التنمية" و "منتدى التتبع" و "المنتدى السياسي الرفيع المستوى" في 2019 والقمة الجديدة ل"تمويل التنمية" لسنة 2020 أو 2021. 

 

ثانيا، تقوية الترابط السياسي بين الغذاء، والصحة والإكولوحيا: وسينطلق هذا المسلسل من العمل الذي تقوم به المنظمة حول أنظمة الغذاء والتغذية، خصوصا دورها كمسهل ل"مجموعة المجتمع المدني من أجل التغذية" والمسارات الأخرى المرافقة لها. سيتوج هذا المسار بتوصيات عملية تقدم ضمن الاستعراضات الخاصة بأهداف التنمية المستدامة على مستوى "المنتدى السياسي الرفيع المستوى"، و"الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل البيئة"، و "اللجنة الخاصة بالأمن الغذائي الدولي"، و"ندوة منظمة الأغذية والزراعة" و"الجمعية العامة لمنظمة الصحة العالمية."

 

ثالثا، نمط الإنتاج الآلي ومستقبل الشغل: سينطلق هذا المسار من العمل الذي يقوم به "مشروع الألفية" وغيره، وسيتم تنفيذه بشراكة مع نادي مدريد وسيتوج باقتراحات عملية ل"شبكة الخبرة" و "مجموعة المجتمع المدني" الموازيتين لمجموعة العشرين خلال دورة بوينيس آيريس، وأعمال "لجنة منظمة العمل الدولية الخاصة بالشغل" وغيرها... 

 

رابعا، الحمائية، الشعبوية والهجرة: في ظل تنامي الصراعات الجيوسياسية، فإن هذا المسار، الذي سيتم إنجازه بشراكة مع "نادي مدريد"، سيشمل حوارات ونقاشات عميقة حول مواضيع عدة وداخل منتديات متعددة من أجل توحيد رؤى رواد الفكر والسياسة والاقتصاد من أجل طرح بدائل مفكر فيها بطريقة عقلانية تهم مستقبل الإنسانية ومستقبل المجموعة البشرية. 

 

*مقالة مقتبسة من الورقة المفاهيمية التي وضعها لاري كولي، رئيس المنظمة العالمية للتنمية، ولحسن حداد، نائب الرئيس، وستيفانو براتو، المدير التنفيدي وطاقم المنظمة بمقرها بروما وقام بمراجعتها والموافقة عليها المجلس التنفيذي للمنظمة.