من كل بد أن الشعب السوري على اختلاف مشارب أفراده وخاصة الذكور منهم يعرفون ما معنى دورة الأغرار، وماذا يعني أن يكون المرء غُراً في الجيش، ولماذا على الغر أن لا يُكثر من زياراته إلى الأهل أوان الدورة، باعتبار أن فترة دورة الأغرار هي من أحقر فترات خدمة العَلَم، حيث الذل فيها متوفر بكثرة، والكرامة غير مصانة، والطعام في حالة تقتير دائم، والنظافة والرعاية الصحية تكاد تكون معدومة، والمرح قليل الحضور، والقتامة دائمة الظهور، ووسائل الرفاهية كتوفر الماء في البيداء.

ونؤكد بأن المسرود أعلاه لم نورده من باب التجني، إنما هو طقس دائم في فترة دورة الأغرار في ذلك البلد، لذا كان أجلدُ الناس وأكثرهم شجاعةً هم من لا يأخذون أية استراحات أو إجازات إبان دورة الأغرار،ليس طبعاً حباً بالذل والهوان واسترطاب شظف العيش في الجيش، إنما لكي لا تكون فترة الإجازة ليومين أو ثلاثة أيام سبباً من أسباب التذمر والامتعاض الدائمين طوال الأيام الباقية من عمرالعسكري في الدورة، وذلك سواءً أكانت الدورة أربعون يوماً أو ستة أشهر حسب ما كان الوضع عليه لدىبعض الألوية من بينها كتائب حفظ النظام، باعتبار أنالإجازات كثيرآ ما كانت تؤدي ببعض العناصر الى الفرار من الجيش برمته، وذلك لأن فترة الإجازة التي كان يشعر فيها المجنّد وكأنه في النعيم تجبره على كره الجحيم الذي سيعيشه في قطعته العسكرية إن عاد من البيت إليها؛ وهذا التعارض الكبير بين الحياة المدنية والعسكرية كان يسبب إزعاجاً حقيقياً لكل من يعيش وجهتي الحياة اليومية ويلجأ بالتالي إلى المقارنة بين الحياتين، بما أن ذلك البون الشاسع بين الحياة المدنية والعسكرية كان أكبر مؤلّد للإشكاليات الكبيرةمنها: حالات الفرار والانتحار ابان خدمة العلَم لدى بعض المجندين.

لذا كان من الأفضل للعسكري ولأهله أن يُنهي المجنّد فترة الأغرار ومن بعدها يزور الأهل على أمل الانتقال إلى مكان آخر أكثر راحةً وأكثر توفراً للطعام والشراب والمسكن، إذ أن تلك الفقرة الانتقالية بين دورة الأغرار والفرز الجديد بحد ذاتها كانت تشكل أملاً كبيراً لدى مجمل العساكر، وهي كانت بمثابة نقلة كبيرة في مسار العسكري وخدمته، وذلك حتى لو كانت فترة ما بعد الدورة دون المستوى المطلوب إلا أنها تبقى أفضل من الفترة التي سبقتها، بكل المعايير، وهذه المفاضلة كانت كفيلة بجعل العسكري يتعوّد على حياة الجيش ويتأقلم معها، طالما أن الماضي القميء في دورة الأغرار يؤكد له بأن الحاضر أفضل منه بعشرات المرات.

ومن باب المقاربة فبخصوص الزيارات الحالية للسوريين إلى بلدهم، فإن الوضع بالنسبة للزائر إليها من الخارج كالعائد إلى أهله إبان دورة الأغرار؛ وكما كانت العودة إلى القطعة العسكرية مُرة جدآ بالنسبة العسكري، بسبب ما كان ينعم به من الرعاية والاحتفاء في بيته وبين أصحابه وخلانه، وما تترك فيه الحياة المدنية من تأثير بالغ الأهمية على قراراته ومسار حياته في الجيش، فالصورة مثلها تماماً ههنا بالنسبة لزائر سوريا الراهنة في المناسبات ولكن بشكلٍمعكوس طبعاً، وحيث أن الزائر لا شك كان ينعم في الغربة بالأمن والأمان والرعاية الصحية والاجتماعية،فضلاً عن توفر كل مقومات الحياة لدى من يقيم في المغتربات، من مواصلات وماء وكهرباء وأنترنت، بينما في سوريا الحالية وأثناء إجازته إليها فقد لا يجد أي شيء مما ذُكر، وهذه أول صدمة كبيرة يتلقاها العائد، وهي قد تؤثر بشكل مباشر ورئيسي على قراراته المتعلقة بالعودة وإمكانية الرجوع للعيش في الوطن الذي يتغنى به في الغربة ليل نهار؛ لذا ولكي لا تنقطع فُرص حب العودة أو تزول رغبة العودة كلياً لدى المواطنين، يُفضل بألا يزوروا سوريا في الوقت الراهن، بما أن البلد يعيش حالة المخاض العسير،والبلد برمته يعيش فترة دورة الأغرار بحذافيرها، ولا أتوقع بأن مَن كان ينعم في الدول المتطورة بالحرية والعدالة والكرامة والغذاء سيكون سهلاً عليه التأقلم مع فصول دورة الأغرار في سوريا، إلاّ اللهم إذا أحرقالعائد كل السفن وراءه، فعندها لا شك سيتأقلم مع الواقع القائم ويعيش الحياة كما هي من دون تذمر وامتعاض واكفهرار.

ونرى بأن مَن يرغب حقاً بالعودة الحقيقية للبلد يوماً، ليساهم بحق في إنهاضه وإعماره كما كان حال الأوروبي الخارج من الحرب العالمية، ومن كان من أهل الوفاء لمسقط رأسه، ولا يريد خذلان ذاته قبل الآخرين بناءً على الوعود التي قطعها على نفسه بشأن بلده الذي ينوي إعادة إنعاشه؛ عليه أن يتسلح قبل الرجوع بإيمان الشخص القادر على البدء من الصفرأو دونه، وبهذا الصدد يطيب لنا أن نقتطف بعض الأسطر من قصيدة (إذا استطعت) للشاعر الانكليزي رديار كبلنج: 

إذا استطعت أن تصنع كومة واحدة من جميع مكاسبك

وتخاطر بها برمية واحدة في لعبة من ألعاب الحظ؛وتخسر

وتبدأ مرة أخرى من حيث بدأت

ولا تنبس بكلمة بشأن خسارتك

إذا استطعت أن تحتفظ برباطة جأشك 

عندما يفقد الجميع من حولك رباطة جأشهم

ويلومونك بسببها

سيكون لك الأرض وكل ما عليها

وما هو أكثر، ستكون رجلاً، يا بني.

وختاماً نتصور بأن على المتلهف للزيارة تعويلاً على الصورة الرومنسية المكونة عن سوريا في ذاكرته،التريث في الزيارة إليها في الوقت الراهن وحيث شبح الخراب والقبح والدمار ما يزال جاثم في سمائها؛ وأن من يحب سوريا ويود قضاء ما تبقى من عمره فيها، لا ينبغي له أن يزورها في محنتها، أوان إصابتها بما يشبه الشلل الكامل، حيث يكون حاله وقتها كحال من يزور مريضاً في غرفة الإنعاش، ثم يعود أدراجه وكأنه قد رمى عن كاهله واجب الزيارة؛ إنما من يحبها بحقوينوي الرحيل إليها للأبد بدون دعايات فيسبوكية؛ عليه أن يذهب إليها لا ليعود إلى مواقعه كأي زائرٍ عابر، إنما يقصدها ليكون معها في أحلك أيامها، ويبقى بجانبها ليخفّف عنها آلام الطعنات حتى تماثل للشفاء، ويعيد ترتيب حياته في حضرتها، يقدّم ما استطاع من الخدمات لها وهي في عز الحاجة لكل أنواع الخدمات، وذلك حتى يعبّر سلوكه الميداني عنحبه لها وإيمانه بها وبما طويلاً ظل يبوح عنها.