تظاهر المعدمون من سكان البصرة بالقرب من منابع النفط التي تنتج الملايين يومياً حفاة مرضى بجو مترب يلهثون انفاسهم المتسارعة وسط شمس تموز القائضة التي لاترحم. المنظر بغاية التراجيديا وهم يفرون متوارين من رصاصات المليشيا الموجهة نحو اجسادهم النحيلة، دراما تصدير البترول والاموال المنقولة يومياً على ظهور سكان البصرة بعيداً عن صحراءهم الملتهبة حيث القصور الفارهة والحدائق الغناء في عواصم العالم المترف. 

دخل الصراع الاقليمي ليشارك المتظاهرين همومهم, بالاضافة الى أهمية شركات النفط المنتجة يومياً كثمن لبيع العراق سلفاً أدركت دول متصارعة ان ساحة الجنوب العراقي والعراق بشكل عام الساحة الجديدة للتصفيات. فتية في مقتبل العمر يبحثون عن اسباب الحياة ومكائن كبيرة عملاقة متصارعة متقاطعة المصالح لاتتقاتل بالمدافع بل تتقاذف بارواح هؤلاء الفتية . الولايات المتحدة أكبر المتصارعين لاتريد ايران ان تبيع النفط ولايران على الارض العراقية مايمكن استخدامه لكسب ورقة النفط . 

حكومة العراق او النظام السياسي المصنع امريكياً في بغداد والتي تخلت عنه الولايات المتحدة فيما بعد أشبه بكلب الحراسة الغبي في القافلة المتجهة نحو المصالح الامريكية والتي تتوائم تلك المصالح مع مصالح دول المنطقة باستثناء ايران طبعاً . نظام المحاصصة او التوزيع النسبوي لثروة النفط في العراق نسي او تناسى الشعب العراقي ، وعلى الرغم ان حكومة المحاصصة المنتهية ولايتها في بغداد اكثر من ثلثيها رجالات ايران اعتمدوا على تمويل العراق بالماء والكهرباء من الجارة ايران بدل صناعة السدود او التعاقد مع شركات كبرى معروفة لتزويد العراق بالكهرباء . جاء دور استخدام هذه الورقة ايرانياً فنفذت قطع الكهرباء وروافد شط العرب ونهر دجلة من الاراضي الايرانية مع توقيت تركيا بتشغيل اكبر سد لديها على نهر دجلة سد اليسو ، ولا نضع اللوم في هذه الحالة على ايران وتركيا فكل منهما لها مشاريعها الاستراتيجية في تطورها الاروائي والزراعي وهي غيرمسؤولة عن حكومة بغداد الغبية التي تركت بلدها من غير مشاريع تنموية في الماء والكهرباء وهدرت ميزانية الدولة في صفقات الفساد وامتيازات البرلمان والوزراء.

ثار سكان الجنوب بعد ان وجدوا بيوتهم بلا ماء ولا كهرباء ودخلت المظاهرات بعشرتها الثانية وهددوا بتعطيل صادرات البترول ورفعوا سقف المطالب الى تغيير النظام السياسي في بغداد وطرد المليشيات والاحزاب المؤيدة للحكومة من المدن والغاء الدستور الذي صيغ بتوزيع نسب الثروة على قئات معينة من زعماء الطوائف في العراق. 

مثلما تطرح اجندات للدول المتصارعة اصحاب المصالح الكبرى لعل سكان الجنوب يدركون حجمهم وسط الماكنات المتصارعة فهم :- اولاً يسكنون على ارض عائمة على بحر من البترول الذي يشكل مادة اساسية في الصراع وهم قادرون على تعطيل صادرات النفط في اي وقت اذا لم يستجاب لمصالحهموتنفذ مطالبهم . ثانياً موقع مدينة البصرة والعمارة والسماوة يعد موقع استراتيجي كساحة للصراع بين الدول اصحاب المصلحة فايران تقاتل لتضع هذه المناطق خاضعة لسيطرتها عبر مليشيات وشخصيات واحزاب لاتبخل ايران بدعمها مادياً ، استخباراتياً واستراتيجياً لتكون القوة الايرانية مبسوطة اليد على مصادر البترول وقريبة من حدود المملكة العربية السعودية والكويت، هذه المدن بالنسبة لايران مواقع مثاليية لبسط الهيمنة واضعاف الوجود الامريكي الخجول اصلاً فيها نتيجة لرفضهم من قبل جماعة مقتدى الصدر. اما الان وبعد حركة الاحتجاجات القوية في الجنوب قلب سكان الجنوب الطاولة على التواجد الايراني المتمثلة بالملشيا والاحزاب المؤيدة لايران وبما ان تلك الاحزاب والمليشيات شاركت بقمع الاحتجاج وتورطت بدم العراقيين العزل توضحت الصورة تماماً لدى ابن الجنوب بان هؤلاء عبارة عن بنادق مؤجرة تعمل ضد مصالح المدنيين العراقيين وسبق ان ذكرنا في مقال سابق على صفحات ايلاف ان هذه المليشيات والاحزاب هي شريك حقيقي في الفساد ولها نسب كبيرة من المشاريع واستخراج البترول والاتاوات التي تفرضها على الحكومة وعلى الشركات المستثمرة في الجنوب ، فمن الطبيعي جداً ان تقف ضد الاحتجاجات التي رفعت سقف مطالبها الى التخلص من هذه المليشيا والاحزاب والنظام السياسي بشكل شامل. 

البصريون يطالبون باقليم اداري مستقل يضاف الى مطالبهم تغيير النظام السياسي في بغداد وكنتيجة لهذا التغيير ستفقد هذه الاحزاب والمليشيات والشخصيات المتنفذة السلطة والنفوذ. وسط احتجاجات الجنوب ربما لا تجد ايران وسيلة لانقاذ تواجدها قرب منافذ البترول العراقية، لكن الامريكان سيكونوا امام خيارات صعبة بالتخلي عن نظام المحاصصة الذي يضعف دولة مثل العراق بعد ان جعلها النظام السياسي الحالي فراجل ستيت او دولة هشة ربما تغيير هذا النظام لنظام مركزي رئاسي كما ينادي به سكان الجنوب سيعيد العراق الى مركزيته في المنطقة ويعود لاعباً يؤثر بالسياسة الاقليمية تأثيراً لاتحبه كثير من دولها وهو امر شبه مستبعد على ضوء مايجري. 

الورقة بيد سكان الجنوب

الورقة الان بيد سكان الجنوب للسيطرة و توجيه الصراع الدائر وكل الذي يهم في اللعبة هو انسلاخ البصرة عن بغداد على الاقل ادارياً لان عودة مركزية العراق والغاء العملية السياسية تحتاج ثورة عارمة من شمال العراق الى جنوبه والضغط لتشكيل حكومة انقاذ يصعب التكهن (بمابعدياتها) او في اقل التقادير يقوم احد قادة الجيش بالتصدي لخطف زمام المبادرة خلال هذه الفترة التي تعتبر حكومة بغداد ضعيفة ومنتهية ولايتها والحكومة القادمة ستؤسس على انتخابات مزورة ، تصارع ايران والولايات المتحدة لتشكيل الكتلة الاكبر الموالية لكل منهما، لكن وسط هذا الرفض الشعبي العارم لامستقبل امام اي حكومة مركزية قادمة لفقدان الثقة وتجاوز حاجز الخوف مع تلك الحياة البائسة. 

عودة الى ورقة الجنوب ، التظاهرات وانسلاخ البصرة وطرد المليشيات يشكل حلاً ببارقة امل لابعاد مناطق الجنوب عن الصراع الدولي ومساعدة الناس هناك لاصلاح مصادر المياه والكهرباء ودعم الصحة والتعليم واعادة تشغيل المشاريع واستثمار اموال البترول محلياً .. انهيار مناطق الجنوب في البصرة خصوصاً التي يصل سكانها الى مايقارب 3 مليون نسمة او تفشي الامراض والكوارث وحدوث نزوح جماعي نتيجة لفقدان اساسيات الحياة لا سمح الله سيؤثر سلباً ليس على العراق فحسب بل على دول الخليج ايضاً ، الامر ليس بيسير وان كانت الورقة بيد سكان الجنوب لكنهم شعب اعزل تقف ضده الحكومة والمليشيات ، اصرارهم على التظاهر والتمسك باهدافهم يجعلنا ننتظر احداث ربما اكبر من الجارية في المنطقة.