مسك العصا من المنتصف والمطاطية كانت ولاتزال الطابع الطاغي والسمة الابرزلمواقف معظم الجهات والاطراف السياسية والشخصيات المؤثرة على الساحة العراقيةعلى حد سواء فيما يتعلق بالمظاهرات الاحتجاجية التي تشهدها المدن الجنوبية الشيعية للعراق منذ حوالي اسبوعين، وقد تلخصلت جميعها في ان التظاهر السلمي للمطالبة بالخدمات الاساسية حق مكفول واجراء مشروع للمواطنين وفي الوقت نفسه يعتبرالاعتداء على المؤسسات الحكومية والاقتصادية جريمة تضر الشعب والبلد، متخذة بذلك حدا وسطا دون اللجوء الى تأييد احدى الجهتين كليا.

وشددت مواقف المراجع العليا ورجال الدين وزعماء الكتل الفائزة بالانتخابات التشريعية الاخيرة وحتى مسؤولي الحكومة العراقية والممثل الخاص للامين العام للامم المتحدة في العراق والولايات المتحدة ايضا، شددت على مشروعية ما يطالب به المحتجون واستنكرتمواجهتهم بالعنف مع الحرص على محافظتهم على الممتلكات العامة وعدم المساس بالمرافق الحكومية الحيوية، مواقف اتسمت بالحرص على أرضاء الطرفين (السلطة والجماهير المحتجة) وعدم تفضيل احدى الكفتين تحسبا لتفسيرات سياسية قد تعرضمصالح اصحابها للخطر وخشية من اتهامها بالانحياز.

المغزى من المواقف المعلنة واضح تماما وهي سياسية بالدرجة الاولى، فهي لا ترغب بكسب احد الطرفين وخسارة الآخر، بل تريد ارضاء كليهما معا وانتقادهما في نفس الوقت، حتى تظهر انها تقف مع تطلعات الشعب ومطالبه من جهة وتدعم دولة المؤسسات والبنى التحتية القوية من جهة اخرى، وبالتالي تحافظ على تأييد الشارع ولا تخسر فرصة انخراطها في السلطة والمتمثلة في الحكومة المقبلة في الوقت نفسه.

الميوعة الفاضحة في هذه المواقف انعكست سلبا على دعم المظاهرات المطلبية التي لم تجد من يتولى قيادتها ويعبر عن مساندتها علنا ويدافع عنها بقوة ضد محاولات تصويرها كغوغاء واتهامات بتحركها وفق ميول مندسين او اياد خارجية محرضة، الامر الذي يهدد بأجهاض الحراك الشعبي قبل نيل اهدافه، فهناك فئة تحاول ركوب موجة الاحتجاجات العارمة للوصول الى اهداف عجزت عن تحقيقها عبر صناديق الاقتراع او على طاولة التفاوض ومن السهل عليها ترك المحتجين والمتظاهرين وحدهم في منتصف الطريق بمجرد اطمئنانها على تأمين مبتغاها في السلطة، وهذا ما جعل المظاهرات تفتقر الى تنظيم منسق وتبقى دون قيادة صريحة تتحدث بأسمها وتسعى لايصال مطالبها وتتفاوض لتحقيق اكبر قدر منها ولاسيما خلال الايام الاولى من اندلاع الاحتجاجات.

توقيت الاحتجاجات التي جاءت في خضم عملية اعادة العد والفرز اليدوي المثيرة للجدل لاصوات الناخبين في بعض المحافظات العراقية ووقوع البلد في فراغ برلماني وتعاظم سلطة الحكومة الحالية التي لم يبق لها الكثير حتى تتفرغ لتصريف الاعمال، لم يخلو من ايحاءات سياسية ايضا، فالبصرة المحافظة النفطية والقلب الاقتصادي النابض للعراق والتي مثلت فتيل الاحتجاجات في عدة مدن اخرى، لم تكن افضل حالا منذ سقوط نظامصدام حسين عام 2003 بل شهدت خلال الاعوام التي سبقت ظهور داعش احتجاجات متواصلة تنادي برفع الغبن عنها وانصافها، مايفسر وجود اغراض سياسية غذتالتظاهرات ودفعت الشارع الى مجابهة حكومة في اواخر ايام حكمها.

حتى ان الهدوء النسبي الذي اعقب اياما من غليان الشارع جنوبي العراق لم يأت بتأثير اعلان المواقف حول مايجري، وانما لعبت الاجراءات المتخذة من قبل الحكومة من تشكيل لجنة لمتابعة المطالب وتخصيص مبالغ ضخمة لدعم المشاريع الخدمة وآلاف التعيينات والمساعي الحثيثة لمعالجة مشكلة مياه الشرب والكهرباء، لعبت دورا كبيرا في تهدئة المواطنين الغاضبين، ولكن يبدو ان التحريض قد دفع المتظاهرين الى رفع سقف المطالب والانخراط في جولة جديدة من التظاهرات ربما ستكون اكثر عنفا من سابقتها.

موجة الاحتجاجات كانت مناسبة اغتنمتها الاطراف المتنافسة لارسال رسائل مبطنة الى جهات محددة في السلطة تعجز عن الافصاح عنها علنا، وطالما لم يدرك المحتجون انهم اصبحوا عرضة للاستغلال لاهداف لا تمت لمطالبهم بصلة فسوف تبقى مظاهراتهم تدور في دائرة مفرغة لن تقدم او تؤخر شيئا.

*صحفي من كردستان العراق