&لماذا باع يهوذا المسيحَ؟ ليس طمعا في المال، ففي الأثر أن المبلغ المُتَّفْقَ عليه ثلاثون عملة فضية! وكخطوة أولى في المرتقى من الخطيئة، ألقى يهوذا نادما المبلغ أمام شيوخ بني إسرائيل، الذين في رد فعل يشبه كثيرا التوتر الجزافي للسرد في قصيدة النثر، فكروا ماذا يفعلون بالمال؟ مُحَالٌ وَضْعُه في عمارة المعبد أو إطعام الفقراء؛ لأنه مَالُ دَمٍ! فتأتي الْقَفْلَةُ المذهلة للقصيدة، تلك التي يبكي في سبيلها جميع مقترفي قصيدة النثر، تلك التي لا يعود المرء بعد قراءتها إلى ما كان عليه قبل القراءة، يخصص المال المترع بدم المسيح لبناء مقبرة للغرباء!! الغرباء الذين طَوَّبَهُم المسيح وكان واحدا منهم.

هل باع يهوذا المسيح بدافع من الحقد؟ ألم يكن هذا الشاب البهي الطلعة طفلا مثله يلهو في طرقات الناصرة؟ لِمَ يُختص هو بالرسالة والحواريين؟ لم يكون هو السيد لا أنا؟ لو كان الأمر كذلك، ما انفتحت أبواب الندم على الحواري الخائن..
ربما كمن السبب في طبيعة يسوع الناصرة التي جاءت مخالفة ومخيبة للنموذج المعتمد في ذهن يهوذا بشأن الْمُخَلِّص... استهجن يهوذا قدومه في صورة معلم فقير جوال.. يدخل القرى ليضرب الأمثال للناس، ربما أراده مُخَلِّصًا في زي عسكري يقود الجيوش ويشن الحروب رابحة كانت أم خاسرة.. سيان! أو في بهاء حاكم مطلق السلطات مثل (بيلاطس)! يهوذا الذي أعماه بريق الفضة ربما لم يعِ قوة الأمثال من فم معلم فقير، لكن المؤكد أنه ندم، وقطع رحلة شاقة للارتقاء من الثاني عشر إلى الأول!
ماذا عنكَ؟ هل سكنتك ذات الهواجس التي سكنت يهوذا؟ هل سولت لك نفسُك مقارنةً بين السيد وبينك؟ لم لا؟ ألم تلعبا طفلين بدلتا نيل مصر؟ ألم يكن لكليكما ذات الحلم؟ ألم تأخذكما الرعدة أمام نصوص لقدماء، ورعدة أخرى أمام الورقة البيضاء؟ ألم يبدأ كلاكما حياته العملية كـ (خوجة1) للغة العربية في مدارس الفقراء، وانتقلتما سويا إلى قاهرة الْمُخَلِّصِ ذي الزي العسكري، المخلص الذي صُبَّ تمامًا في قالب تصورك الشخصي عنه، بينما لم يكن في نظر السيد سوى صاحب الوجه القبيح؟! يالبصيرة الشعر الفادحة! انظرْ إلام غنى كلاكما! كنت تغني للاتحاد الاشتراكي (بيلاطس عصرك) وهو يغني الأمثال: الليل، والشعر، والزمن الجريح، والحب، ومرثيتين لرجلين أحدهما تافه والآخر عظيم....
أظن حتى يهوذا نفسه لا يمتلك إجابة على سؤال الخيانة/الجريمة، لكن المياه التي جرت في النهر – بكميات مرعبة – ستفتح الباب للحديث عن مسايرة تيار عارم من مجتمع أورشليم، تقوده الصفوة من شيوخ اليهودية، يرون الخير .. كل الخير في قتله، ألم يقل (ٌقيافا) لابد من موته لتحيا أمة؟ وما الأمة إذا لم تكن رجلا مثلك تتداخل أحلامه بنماذجه بأصنامه وأوهامه... المرعب في الأمر أنك بمرور السنوات التي انتظمت عقودا تماهيت مع نموذجك (يهوذا) في الجانب المظلم منه، وتمردت عليه وكسرته في جانبه المضيء، خرجت عليه باستمرائك العيش طوال عقود دون أن يرف لك هدب من وجع الضمير، أنت يا من قتلت السيد مستمعا؛ لتكمل النبؤة! قتلته بالكلمة2، ولم تؤلمك سوى قيامته الدائمة عبر كلماته، هكذا رحت تواصل قتلك له مستعينا بمقعدك الوثير في كنف (بيلاطس) ضاربا بالتجاهل ذكرى صعوده جلجثة آلامه كل عام، ذلك الصعود الذي طالما تخيلته على إيقاع صوتك المعاير شاهد الزور، وعينيك الضيقتين بنظرتهما الحادة المتشفية، وابتسامتك الصفراء التي لشيطان، لعلك تعرف اسمي، لكن – بالتأكيد – لا تعرف بشأن مرارة تملؤني لموته.. ولا تعرف دموعي التي طالما اختلطت بأمثاله المطبوعة على صفحات كراسات فقيرة، ولا بشأن خيبة عميقة مبعثها الصمت والتجاهل البغيض الذي خيم على مؤسسات وقاعات (بيلاطس) الثقافية حين اُخْتِير السيدُ – بفضل ما أبدعه من أمثال لا لشيء آخر – كواحد من أهم عشرة مخلصين في قرننا الماضي التعس! صمت الجميع لصمتك وتجاهل الجميع تجاهلك! ولم يعلق أحدٌ على الأمر، لتخرج علينا هذا العام، بعد أكثر من ثلاثة عقود من الجريمة، وقد تذكرت – هكذا فجأة !- أن تخبرنا بما قاله الطبيب لك فور صعود السيد إلى السماء، قلت لنا حرفيًا: أخبرني الطبيب سواء قيلت هذه الكلمة أم لم تُقَلْ كان سيموت في هذه اللحظة. تماما مثل المسيح سواء خانه يهوذا أم لم يخنه.. كان سيصلب في هذه اللحظة!!
اهدأ بالا، وارتح ضميرا، وانعم عيشا!&
هل شبهتك في مفتتح كلامي بيهوذا؟! عذرا... أين أنت من يهوذا؟!&
&
1- اسم كان ينطلق في زمن مضى على من يمارس مهنة التدريس.
2- وإن أتاني الموت، فلأمت محدثا أو سامعا.
&