بيروت: من أقوال أبراهام لينكولن في البيت الأبيض، وصولًا إلى هوليوود، ومرورًا بقصص الأميركيين في اعماله، يترجم شكسبير الحلم الأميركي. فكيف أصبح الرمز الإنكليزي ظاهرة في الولايات المتحدة؟
 
قال الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون إن العلاقة بين المواطنين الأميركيين والشاعر البريطاني ويليام شكسبير قديمة ومستمرة، خصوصًا بعدما سقط جيل كامل منهم تحت تأثير الكاتب العظيم، إلى أن اصبح الأن جزءًا لا يتجزأ من نسيج الحياة في الولايات المتحدة. 
 
أميركي الجوهر
خص الباحث الأميركي ستيفن غرينبلات، أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة هارفرد، وِليام شكسبير بكتابٍ يستكشف فيه سيرته وارتباطها بمعطيات في أعماله الإبداعية. يقول غرينبلات في كتابه "وِلْ في العالَم: كيف أصبح شكسبير شكسبيرًا": "هناك كثير من الأسباب لإعتماد أميركا كتابات المسرحي ويليام شكسبير خصوصًا أن مسرحياته ليست حكرًا على بلد معين بل عالمية، والأداء المسرحي يعني التحرر، والمسرح هو أن تتخيل نفسك غير ما انت عليه".
عزا غرينبلات القرابة الثقافية بين الأميركيين وشكسبير إلى التقارب اللغوي بينهما، حيث اعتبر أنهم يمثلون شكسبير اكثر من البريطانيين، رادًا الأمر إلى خطاب ابراهام لينكولن الشهير حين استخدم ايقاعات شكسبيرية للتواصل مع جمهوره. اضافة إلى أن في لغة شكسبير الإنكليزية انفتاح ملحوظ على الابداع اللغوي من الثقافات المهاجرة، لذلك يعتبر أن شكسبير كاتب اميركي في جوهره.
وتحدث شكسبير إلى الأميركيين بطرق مختلفة، فالجميع يعلم أن شكسبير لم يسبق له أن غامر على المحيط الأطلسي، لكنه كان يذكر دائمًا في مسرحياته الرحلات البحرية، ويرسم مشاهد الغرق إلى جانب الطعن والمعارك الأخرى التي كانت تتم في المعارك، والغرق الذي كان الأكثر شيوعًا يعني الموت في مسرحياته، وبعض من أعظم أعماله، ولا سيما ليلة الثاني عشر والعاصفة، تبدأ مع البحارة الغرقى، ومن الممكن أن تكون مسألة مألوفة لأجيال من الأميركيين.
 
تقارب لغوي وثقافي
بعد نحو 100 سنة من اكتشاف صخرة بليموث، صدرت تقارير عن انتاج شكسبير مثل "روميو وجولييت" وهي الأكثر شعبية بين الجماهير. وبحلول منتصف القرن الثامن عشر، أصبحت أعمال شكسبير مقدسة في نظر الأميركيين، وذكرى جميلة لتقارب التراث اللغوي والثقافي. عرضت روميو وجولييت أولًا في نيويورك في عام ١٧٣٠، حيث كان الأميركيون في مرحلة مبكرة من اعجابهم بشكسبير. ووفقًا للباحث الأميركي جيمس شابيرو، مؤلف كتابين عن شكسبير صدرا في عامي 1599 و1606، "ربما هناك ما يزيد على 500 مسرحي لشكسبير قبل حرب الاستقلال الأميركية". ويذكر حين كان المتشددون الإنجليز معادون بشدة للمسرح، فليس من المستغرب إذًا أن الشعب الأميركي كله يشاهد المسرح بعمق. وفي أواخر عام 1774، حث الكونغرس المواطنين على الابتعاد عن المسرح. الآن، أصبحت مسرحيات شكسبير جزءًا من النقاش في شأن ما يعنيه أن يكون المرء أميركيًا. في السطر الأول من هاملت عبارة "المتواجدون هناك"، وتثير بصراحة مسألة الهوية. وفي الوقت نفسه، مسرحيات مثل عطيل وريتشارد الثالث سمحت للأميركيين اكتشاف أسئلة جديدة وشائكة التي لولاها كان من الصعب التغيير. وعلى الرغم من عدم اعتبار الأميركيين انكلترا وطنًا أم، إلا أن ستراتفورد تبقى مقصدًا سياحيًا مفضلًا عندهم.
 
جيفرسون ينحني 
عندما زار توماس جيفرسون وجون آدامز إنكلترا في عام 1786، وهما شاركا في اعلان الإستقلال الأميركي، انحني جيفرسون وقبل أرض انكلترا، ودفع المال لزيارة قبر شكسبير، في حين جمع رئيس الولايات المتحدة الأسبق جون آدامز بقايا الكرسي التي كانت للكاتب المسرحي وقال: "اسمحوا لي أن أبحث عن فكرة ارشدت الرجل العظيم شكسبير إلى متاهة الطبيعة البشرية”، وكتب في مذكراته: "يجب أن اكتشف كيف كان فكر هذا الرجل".
زار كثير من الشعراء الولايات المتحدة، ابرزهم ألكسيس دو توكفيل، المؤرخ والمنظر السياسي الفرنسي الذي قام بجولة في أميركا في عام ١٨٣٠. قال: "لا يمكن ايجاد كوخ صغير الا وشكسبير في داخله، المسرحيات كانت مثل الكتاب المقدس".
أنموذج أخر من جمهور شكسبير الأميركي بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وهو الممثل والمخرج السينمائي سام أناماكر الذي قاد حملة لإعادة بناء مسرح شكسبير غلوب. والمعروف عن أناماكر ولعه الكبير بشكسبير الذي كان جزءًا من رفضه الحاضر الأميركي لصالح حنينه إلى الماضي الأوروبي. لم تقتصر الحماسة هذه على اناماكر، بل اهتم العالم الجديد كثيرًا بمسرحيات شكسبير، وبدأت هذه الشعبية في الفصول الدراسية. يقول جيمس شابيرو، أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا: "بيع نحو ١٢٢ مليون نسخة في ١٠٠ سنة الأولى من كتاب McGuffey الذي يدرس في المدارس الأميركية، وكان الهدف نشر مناقشات شكسبير ونشر موضوعاته الخالدة".
 
مجازر بإسم الحب 
خرجت العواطف الجياشة اتجاه شكسبير عن السيطرة في بعض المواقف. في عام ١٨٤٩، نشبت أعمال شغب نتيجة منافسة بين النجمين البريطاني وليام جون ماكريدي والآميريكي ادوين فوريست في أثناء أدائهما مسرحية "ماكبث" لشكسبير، على خشبة مسرح آستور. امتد العراك إلى الشارع وأدى إلى مواجهات عنيفة بين مشجعي ماكريدي وفرست، نتج عنها مقتل ٢٠ شخصًا وما لا يقل عن ١٠٠ جريح. يقول شابيرو: "كيف يمكن لمحبي شكسبير أن يقتلوا، لكن هذا ما حدث للأسف".
مثلت هذه الحادثة جزءًا من الصدام بين التقاليد البريطانية والأميركية، ونشب صراع قوي آنذاك بين ثقافتين مختلفين في المسرح، ولم يحل إلا بعدما انتج مؤسس المسرح الشعبي جوزيف باب "شكسبير في الحديقة"، في عام ١٩٦٠.
ويرى شابيرو أن شكسبير هو أكثر اعتدالًا في الثقافة السياسية والاقتصادية الأميركية: "يوجد كثير من الأشياء التي لا يمكن أن نقولها بعضنا لبعض، حول الفوارق الاقتصادية وخلافاتنا السياسية، إلا أن شكسبير قدم لنا ما عجز الأميركيون عن قوله".
 
الحل للعنصرية في اميركا
ديبرا أن بيرد، المسؤولة عن مهرجان هارلم شكسبير والتي تعمل مع جنسيات مختلفة أفريقية وأميركية، تعتقد أن عاطفة شكسبير مستمدة من السياسة، وأن مسرحيات شكسبير وسيلة يستطيع المجتمع الأميركي من خلالها مناقشة التوترات العصية عن الحل. يذكر شابيرو عندما التقى مع بيرد وقالت له إن اميركا تعاني عنصرية عرقية، وإن شكسبير هو الحل الوسطي الذي يستطيعون من خلاله التحدث عن ازمة العنصرية في البلاد.
وفي الإشارة إلى مسرحيات شكسبير وابرزها يوليوس قيصر، عطيل أو ريتشارد الثالث، يذكر أنها شهدت مناقشات شعبية قديمة بين الأوساط الأميركية، ويذكر أن لينكولن الذي قرأ شكسبير أول مرة عندما كان صبيًا في كوخ خشبي في بلدته تأثر به جدًا ثم استخدم كلماته لاحقًا للتواصل مع ناخبيه، وقيل أنه كان يتجول في البيت الأبيض مرددًا بصوت مرتفع بعض ما جاء في مسرحية هاملت والملك لير من اجل الحصول على دعم موظفيه.
 
مفارقة مأساوية
في مفارقة مأساوية، أدى شكسبير دورًا في اغتيال الرئيس لينكولن، حيث توجه منفذ عملية الاغتيال جون ويلكس بوث إلى مسرح فورد حيث كان الرئيس في تلك الليلة، وكتب القاتل قبل اطلاق النار رسالة مفادها أن قاتل بروتوس في مسرحية يوليوس قيصر مثال يحتذى به. وأضاف: "القيصر بدأ ينزف".
أدى الممثل الفكاهي مارك توين الكثير من الأدوار في مسرحيات شكسبير في عام ١٨٧٠، وبعده عمد كثير من الكتاب الأميركيين إلى إقامة موعد خيالي مع شكسبير، ابرزهم الكاتبة جين سمايلي الفائزة بالعديد من الجوائز ، والتي قدمت "الملك لير" بطريقة مختلفة، ونقلت شكسبير إلى الغرب الأوسط الأميركي، وجاءت قصتها لتلخص قرنين من الشكسبيرية الأميركية.
يقول شابيرو: "في نهاية عهد الرئيس الأميركي الحالي باراك اوباما، سيبقى شكسبير صوتنا في الأمور التي لم نتجرأ على البحث فيها، فموضوع العنصرية يتفشى أكثر من أي وقت مضى، وقضايا القيادة والانتماء والهوية الوطنية هي اسئلة شكسبير، فنحن نسأل اليوم: "من هو الأميركي؟"