&
آلتقيت بالكاتب الايطالي الكبير البرتو مورافيا أوّل مرّة في أواسط شهر يونيو-حزيران 1986 بمدينة هامبورغ الالمانية حيث آنعقد آنذاك المؤتمر العالمي لنادي القلم. وأذكر أنني وجدته على نفس الصورة التي توفرت لي من خلال كتبه. فقد كان بشوشا، ونشطا، ومجادلا رائعا، وجنتنمالا أنيقا في حركاته، وفي ملبسه. وفي الحوار الذي أجريته معه، تحدثنا حول مسائل كثيرة تتصل بحياته، وبمواقفه السياسيّة، وبرواياته، وبرحلاته عبر العالم. وبكلّ حبّ تحدث عن البلدان العربيّة التي زارها، مبديا اعجابه بالمغرب. وكم كان سعيدا عندما عاين أن كتبه تباع على الأرصفة في البعض من المدن العربية. وقد قال لي أيضا: ”أنا لا أشعر بأنني عجوز. فعندما يقوم الانسان بعمل مهمّ، ومفيد لا يمكن أن يشعر البتة بوطأة الشيخوخة. هناك الشباب، وهناك الموت. أما الشيخوخة فلا وجود لها الاّ لدى الذين يضعفون أمامها".
ومؤخرا قرأت كتابا ممتعا لالياي ايلكان يروي فيه بطريقة شيّقة فصولا من سيرة الببرتو مورافيا، مضيئا زوايا معتمة في حياته المديدة. كما يتحدث بآستفاضة عن علاقته بالكتاب والمثقفين الايطاليين، والأجانب، وعن آرائه في السياسة، وعن حياته الزوجيّة الصاخبة حيث أنه تزوج ثلاث نساء: الاولى كانت الروائية المشهورة ايلزا موراتني، والثانية داشيا ماراييني، وهي كاتبة أيضا. وأمّا الثالثة التي تدعى كارمن ليرا فقد كانت تصغره بأربعين عاما. وعن السيرة الذاتية يقول مورافيا:”ليس هناك عمل أشدّ وطأة على ألأديب من كتابة سيرته الذاتيّة اذ أنه يجد نفسه مجبرا على أن يتعرّض لجوانب عديدة من حياته الشخصيّة. وهو أمر مزعج للغاية خصوصا وأنه مطالب بأن يتقيّد بالواقع والحقيقة. والنتيجة أنه يحرم من الحرية التي يمنحها له الخيال كما هو الحال عندما يكتب الرواية". وتحدث موارفيا عن الوجوديّة في رواياته قائلا: ”لقد كنت وجوديّا منذ البداية وخاصة عندما كتبت روايتي الاولى: ”اللامبالون”. وأعتقد أن دستويفسكي هو أول روائي وجودي في العالم. فقد كانت القضية الأساسية التي آهتمّ بها الروائيون في القرن التاسع عشر مثل تولستوي، وبالزاك، وديكنز هي علاقة الفرد بالمجتمع. أمّا دستويفسكي فقد طرح في روايته الشهيرة "الجريمة والعقاب" قضيّة علاقة الفرد بذاته. وأنا آهتممت في جميع أعمالي بالذات، وبأوجاعها، وبصراعها مع نفسها. لهذا أرى أنني وجودي قبل سارتر، وكامو". ويرى مورافيا أن حياته"عادية مثل جميع الناس، لكنها فوضوية أيضا". والعنصر الوحيد الدائم والمتواصل فيها هو الكتابة. لذا هو يشعر دائما بأن "الأدب هو حياته". ويعتقد مورافيا أن الشخصيات الكبيرة التي تصنع التاريخ عادة ما تسبب للناس والمجتمعات خيبات مرّة خصوصا بعد أن يتمّ التعرف عليها مباشرة. وكذلك المشاهير من الأدباء. ويروي مورافيا أنه آلتقى بالشاعر الكبير ت.س.اليوت الذي كان يكنّ له إعجابا كبيرا. وقد آنتهى لقاؤه به بخيبة شديدة إذ أنه وجده شخصا "باردا، يكاد يكون فاقدا لأي عاطفة انسانية". ويضيف مورافيا قائلا: ”التعرف على الشعراء عادة ما يترك في النفس خيبة مرة. أوضّح ذلك بسرعة: عندما يكتب الشاعر قصيدته لا يكون وحيدا بل يكون برفقة جنّي الشعر. وحالما ينتهي من كتابة قصيدته يجد نفسه وحيدا. والشخص الوحيد عادة ما يكون بائسا وثقيلا. وكان اوجينو مونتالي شاعرا كبيرا. بل باستطاعتي أن أقول بإنه أكبر شاعرايطالي في النصف الأول من القرن العشرين. غير أنه كان شخصا عاديا للغاية. وكان يبدو شبيها بموظف مصرفي. وأعتقد أنه كان يحرص على أن يبدو كذلك !”
ويبدي موارفيا نفوره الشديد من الالتزام لأنه "يتناقض مع الحرية، ويخنق الإبداع الحر، ويحدّ من حماس الكاتب والمثقف للدفاع عن قضايا معيّنة. ويضيف موارفيا قائلا: ”الالتزام يشعرنا كما لو أننا مجبرون على القيام بعمل قد لا نحبه. لهذا السبب هربت دائما من الالتزام، ومن أصحابه، ومن دعاته. أنا كاتب ولست سياسيّا مطلقا. وأعتقد أن السياسة عمل مضجر للغاية. والأدب يغنيني عن كلّ شيء لأنه المعنى الحقيقي والعميق لحياتي ووجودي". وقال موارافيا إنه يعشق النساء، ولا يرى للحياة معنى بدونهن غير أن لا يجري وراءهن، ولا يلاحقهن. وأما الجمال فهو بالنسبة اليه واحد من اهمّ عناصر الحياة "، إلاّ أنه يعتقد أنه -أي الجمال-يكمن في أشياء، وفي كائنات كثيرة يعتبرها البعض "قبيحة وبشعة".
&