&
"الثعلب يعرف اشياء كثيرة ولكن القنفذ يعرف شيئاً واحداً كبيراً". وحين وقع ايسايا برلين على هذه العبارة النثرية المستلة من اعمال الشاعر اليوناني ارخيولوخس الذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد، يوم كان استاذاً شاباً في جامعة اوكسفورد اواخر الثلاثينات، أصبحت العبارة طريقة مسلية يصنّف بها برلين وشلته اصدقاءهم، بوضع البعض في خانة الثعالب والبعض الآخر في خانة القنافذ. ولكن هذه الشذرة الغامضة من الحكمة اليونانية ظلت عالقة في ذهن برلين وأصبحت في النهاية المبدأ المحرك لمبحث استثنائي أعده عن تولستوي وأملاه في غضون يومين. وكان العنوان الأصلي للبحث "شكوكية ليو تولستوي التاريخية" قبل ان يقترح الناشر تغييره الى "القنفذ والثعلب". والى جانب تشريح عمل تولستوي الضخم "الحرب والسلام" استطلع برلين في مبحثه الفارق الأساسي الموجود بين المأخوذين بأشياء لا نهاية لها، أي الثعالب، والذين يربطون كل شيء بمنظومة مركزية شاملة، أي القنافذ. وفي مقال نقدي لاحق لم يصبح تقسيم البشر الى قنافذ وثعالب وسيلة طريفة لتصنيفهم فحسب بل وطريقة وجودية لمواجهة الواقع ايضاً. وعلى سبيل المثال ان الثعالب تتوصل الى قناعة بأنها تعرف اشياء كثيرة وان تكوين نظرة متماسكة الى العالم هو على الأرجح فوق قدرتها، ويجب ان تسلّم بحدود ما تعرفه. وينقل مايكل اغناتيف كاتب سيرة ايسايا برلين عنه القول "نحن جزء من نظام للأشياء أكبر من ان نستطيع فهمه، ونحن أنفسنا نعيش في هذا الكل وبه، ولا تأتينا المعرفة إلا بقدر ما نتصالح معه". قنفذ برلين، على النقيض من ذلك، لا يتصالح ابدا مع العالم ويبقى غير متصالح معه، غرضه ان يعرف شيئاً واحداً كبيراً، وعلى حد تعبير اغناتيف "ان يسعى بلا كلل الى اضفاء شكل توحيدي على الواقع. وفي حين ان الثعالب تَقنَع بما تعرف وقد تعيش حياة سعيدة فان القنافذ لن تعرف الراحة وحياتها قد لا تكون سعيدة". ولكن مبحث برلين الشهير ليس عن مملكة الحيوان. وهو إذ يتناول الشخصية الفكرية المبدعة للفنان يبدأ بفعل التقسيم واصفاً دانتي وباسكال وابسن وبروست من بين آخرين بأنهم قنافذ، وشكسبير وهيرودوت وارسطو ومونتين وبلزاك وغوته وجويس بأنهم ثعالب.
بعد المرور بكوكبة من الكتاب الروس الكبار ـ بوشكين ودوستويفسكي وتورجنيف وتشيخوف وغوغول ـ يتوصل برلين الى الحالة المثيرة للكونت ليف نيكولايفيتش تولستوي معترفاً بأنه يقف حائرا إزاءه. وحين يُسأل برلين عما إذا كانت رؤية تولستوي رؤية تعددية أو أحادية وما إذا كان تولستوي من مادة واحدة أو مركَّباً من عناصر غير متجانسة فانه يقر بعد وجود إجابة واضحة أو مباشرة عن مثل هذه السؤال. هنا يصبح "القنفذ والثعلب" مبحثاً عن فلسفة تولستوي في الفن والتاريخ معبرَّا عنها في عمله "الحرب والسلام". واثار المبحث اهتماماً واسعاً في الأوساط الفكرية منذ البداية. وكتبت صحيفة الاوبزرفر "ان هذا الكتاب الصغير مشوّق وبديع بحيث ان القارئ لا يلحظ رسخوه في العلم ايضا". وعلى الجانب الآخر من الأطلسي اعلنت صحيفة نيويورك تايمز "ان برلين لا يمتلك ناصية كل عناصر المعرفة، الأدبية والفلسفية، لهذه المهمة فحسب بل لديه احساس عميق وخفي باللغز الذي تمثله شخصية تولستوي، وهو يكتب ببلاغة رائعة على طول الخط". لخص برلين مبحثه ببساطة في مراسلة مع الناقد الاميركي الكبير ادموند ولسون قائلا "أرى ان تولستوي بطبيعته ومواهبه كان ثعلباً يؤمن ايماناً عميقاً بالقنافذ، ويتمنى لو يفكك نفسه الى ان يصبح هو نفسه قنفذاً". ومن هنا الشرخ الذي يعرفه الجميع في داخله، وهو "شرخ" كوني. فالبشرية ستتصالح دائماً مع الحياة كما هي وفي الوقت نفسه تصبو الى حقيقة توحيدية بسيطة في أساس الوجود، تقدم تفسيراً عميقاً ومواسياً.&
تتمثل بطولة القنفذ في انه يرفض التحديدات والأرجح انه لن يتصالح ابداً مع قيود الحياة اليومية. وكما كتب اغناتيف فان تولستوي كان ينظر بازدراء الى العقائد على اختلافها، دينية وعلمانية، ولكنه لم يتمكن قط من التخلي عن امكانية وجود تفسير نهائي للوجود. ويكتب برلين "ان حس تولستوي بالواقع كان حتى النهاية حساً تدميرياً بحيث لا ينسجم مع أي امثولة أخلاقية كان قادرا على بنائها من الشظايا التي أحال العالم اليها بفكره، وكرس كل قوته الذهنية وارادته الهائلتين الى نكران هذه الحقيقة طيلة حياته". ما زال مبحث برلين الاستثنائي يحتفظ براهنيته لأنه تحفة خطابية رائعة والعاب نارية فكرية ودراسة لماحة عن كاتب روسي كبير وعمله، وربما لأن الجميع تقريباً منقسمون بين العيش ثعالب أو قنافذ. وقال برلين لاحقا انه شعر بأسف شديد لتسمية مبحثه "القنفذ والثعلب" لكنه اعترف في النهاية بأنه "على الأرجح ثعلب". كتب ايسايا برلين "ان هناك هوة بين الذين، من جهة، يربطون كل شيء برؤية مركزية واحدة، بنظام واحد، متماسك أو واضح بهذا القدر أو ذاك بمفردات يفهمونها ويفكرون بها ويشعرونها ـ مبدأ ناظم عام واحد بمفرداته وحدها تكون هناك اهمية لكل ما يكونونه وكل ما يقولونه ـ ومن الجهة الأخرى اولئك الذين يسعون الى غايات متعددة، كثيرا ما لا تكون مترابطة بل وحتى متناقضة، لا يربطها رابط، إن وجد، إلا بطريقة واقعية لسبب نفسي أو فيزيولوجي يتعلق بمبدأ أخلاقي أو جمالي".&

&