&
غالبا ما تكون الكتابة الموضوع الأساسيّ في روايات الكاتب الأمريكي بول اوستر المولود عام 1947. وهذا ما تعكسه واحدة من رواياته الأخيرة التي حملت عنوان:”وحيدا في العتمة". في هذه الرواية نحن نجد أنفسنا أمام نفس الموضوع، أي موضوع الكتابة. بطل هذه الرواية يدعى أوغست بريل. وهو ناقد أدبيّ متقاعد، أصبح مقعدا بسبب حادث سيّارة. وهو يضطرّ الى الإقامة عند آبنته مريام التي تعيش مع آبنتها كاتيا. وهذه الأخيرة فقدت خطيبها في حرب العراق التي عاشها الأمريكيّون وكأنها كابوس مريع، تماما مثلما كان الحال بالنسبة لحرب فيتنام. ومن خلال هذه الرواية المفعمة بالتشاؤم والرعب، تتراءى لنا الولايات المتحدة الأمريكية وكأنها تعيش حربا أهليّة مدمّرة. ومعنى هذا أنّ بول اوستر ظلّ وفيّا لتلك المقولة الواردة في روايته "ليفياتان" الصادرة عام 1992:”كلّ شيء يمكن ان يحدث في أيّة لحظة!”. وهو يقول بإن فكرة الرواية بدأت تختمر في ذهنه لما قام الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش بالتلاعب بالإنتخابات ليطيح بمنافسه آل غور. وكان هذا التلاعب سياسيّا، وقانونيّا. وأمام كلّ هذا، أحسّ بول اوستر بالتقزّز، والغضب تجاه ما يحدث في بلاده، من دون آهتمام بالملايين من الأمريكيّبن. ومنذ ذلك الحين بدا له أن العالم الذي يعيش فيه ليس عالما واقعيّا. فالعالم الواقعيّ كان يمكن ان يكون ذاك الذي ينتخب فيه آل غور رئيسا، وبالتالي قد لا يشهد لا أحداث 11 سبتمبر-اويلول 2001، ولا حرب العراق. ويؤكد بول اوستر أن الإستخبارات الأمريكيّة كانت على يقين بان بن لادن كان بصدد اعداد عمليّات ارهابيّة ضدّ الولايات المتحدة الأمريكيّة. كما أنها كانت تعلم أن البعض من انصار "القاعدة" كانوا يتدربون على قيادة الطائرات بهدف القيام بمثل تلك العمليّات. غير أن الرئيس جورج دبليو بوش لم يعر آهتماما لمثل هذه التحذيرات ، ولاللوثائق التي كانت تشير الى ذلك، .فقط لأنها صادرة عن ادارة بيل كلينتون.
وعن الحضور القوي للسياسة في روايته:”وحيدا في العتمة" ،يقول بول اوستر: ”أنا أرى أن كلّ شخصيّة تعيش في قلب التاريخ، وكإنسان وككاتب، ليس بآستطاعتي أن أتغافل عن كلّ هذا. وأنا أرى أنّ السياسة حاضرة بقوة في حياتنا. فمنذأربعين عاما، ،حن نعيش في الولايات المتحدة الأمريكيّة ما يشبه حربا اهليّة ثقافية، ومعركة بين الأفكار والأقوال. وهي حرب حقيقية، لكن من دون أسلحة. ومع آنفجار الأزمات الإقتصادية، بتّ أعتقد ان الطرفين المتنازعين سوف يتوصّلان الى التوافق والتحاور بعد أن كانا عاجزين عن ذلك. فالفرصة سانحة وفريدة من نوعها لتحسّس الأشياء الأساسيّة".
وبشير بول اوستر الى أنّ بعض الأحداث في روايته المذكورة مستوحاة من وقائع حيقيقيّة. فالأحداث التي تعيشها أخت البطل الرئيسي اوغست بريل، والمتمثلة في الإضطرابات العنصريّة التي شهدتها مدينة نيويورك عام 1967، هي نفس الأحداث التي عاشتها والدته. في ذلك الوقت كان هو في العشرين من عمره. لذا جاء وصفه لتلك الأحداث متطابقا مع الواقع. وفي روايته"وحيدا في العتمة"، يحضر بعض الكتاب الأثيرين الى بول اوستر مثل الروسي تشيكوف، والايطالي كالفينو، والفرنسي كامو. كما يحضر الشاعر البريطاني جون دن(1572-1631)الذي عاش حياة ماجنة قبل ان يصبح قسّا. ويعتقد بول اوستر أن الكتابات الدينيّة لهذا الشاعر كانت من اجمل ما كتب، وأن مواعظه كانت من أروع ما عرفه النثر الانجليزي لا في عصره فحسب، بل في العصور اللاحقة.
ولا يخفي بول أوستر أن فكرة روايته :”وحيدا في العتمة" مستوحاة من قصّة حقيقيّة. ففي صيف عام 2006، آندلعت الحرب بين اسرائيل ،وبين حزب الله في لبنان. وكان اوري،آبن الكاتب الإسرائيلي دافيد غروسمان من بين الجنود الذين قتلوا في تلك الحرب. فكان ذلك بمثابة الكارثة العظمى بالنسبة لوالده الذي كان دائا ضد٬ النزعات الحربيّة للدولة العبريّة. لذلك أهداه بول اوستر روايته المذكورة. وعن فنّ الكتابة، يقول بول اوستر بإنه يكتب لأن الكتابة طريقة للعيش في العالم، ومحاولة لفهمه، وأيضا لفهم نفسه. ويمكن القول بإن هناك متعة طفوليّة في الكتابة. متعة آستكشاف حكايات وروايتها. ولأن العالم الذي فيه نعيش ليس كافيا لآحتواء كلّ أحلامنا وكلّ افكارنا، ،فإنه يجد نفسه مضطرّا لآبتكار عوالم أخرى. و هويحبّ تلك الجملة العميقة والرائعة التي قالها المخرج الروسي الكبير اندريه تاركوفسكي:"الفن هو الفن ذلك أن الحياة ليست كافية"