فتحت الانتقادات العنيفة التي وجهها الحرس الثوريّ الإيراني منذ يومين إلى الرئيس أحمدي نجاد الباب واسعاً أمام التكهنات حول مستقبل الدعم الذي كان الرئيس الإيرانيّ يتلقاه من الأجهزة الأمنية التي ظلت لوقت قريب تدعم سياساته القمعية ضد الإصلاحيين وتشدده الواضح في مفاوضات الملف النوويّ.


إسماعيل دبارة وأشرف أبوجلالة : يتابع محللون وملاحظون عبر العالم بشكل مستمرّ quot;رسائلquot; الحرس الثوريّ الإيراني عماد القوة العسكرية لجمهورية إيران الإسلامية، واهتمام الحكومات والخبراء برسائل الحرس الثوري، التي قد تأتي في شكل تصريحات أو مناورات أو هجمات أو اغتيالات أو تهديدات، تنبع من حقيقيتين، أولها انه جيش متنفذ في دولة تثير من الإشكالات والتهديدات والمخاوف ما لا يحصى ولا يعدّ، وثانيا للطابع السياسيّ البحت الذي يحمله هذا الحرس ودوره المحوريّ في تسطير سياسات إيران داخليا وخارجيا، بوصفه أداة من الأدوات الرئيسية التي تعتمد عليها إيران في مد نفوذها في الخارج ومواجهة التهديدات التي تستهدفها داخليا وخارجيا.

لذلك لم تمرّ الانتقادات الأخيرة التي وجهها إعلام الحرس الثوريّ الإيرانيّ للرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد مرور الكرام، فالانتقادات كانت عنيفة وغير مسبوقة وتأتي بُعيد quot;صكوك على بياضquot; قدمها الحرس الثوريّ لسياسات نجاد الداخلية والخارجية التي تحظى بدعم كبار قادة الحرس الثوريّ... فما الذي تغيّر اليوم؟

هجمة غير مسبوقة

عبر مقال بعنوان quot;هل البرلمان في مركز صنع القرار أم لاquot; نشرته مجلة (رسالة الثورة) التي تعتبر لسان حال الحرس الثوريّ الإيرانيّ، وُجّهت المدفعية هذه المرة إلى الرئيس نجاد، بعد أن كانت تلك المدفعيّة توجه باستمرار لمعارضيه الإصلاحيين أو للغرب quot;المتآمرquot; على إيران أو ضدّ الدولة العبرية العدوّ اللدود للحرس الثوريّ.

وكرر المقال الذي وصف بأنه مكتوب quot;بلهجة حادةquot; ونشر في المجلة الشهرية للحرس الثوري انتقادات سابقة وجهت لاحمدي نجاد من جانب أطراف أخرى في إيران لا تستسيغ طريقة إدارته ومعالجته للتحديات المطروحة على الجمهورية الإسلامية داخليا وخارجيا. وتساءلت مجلة الحرس الثوريّ في مقال بعنوان quot;هل البرلمان في مركز صنع القرار أم لا؟quot; قائلة quot;هل يبرر الوجود على القمة الاعتقاد بأن أي عمل تقوم به الحكومة صواب بغض النظر عن القانونquot;؟

ومضت المجلة قائلة: quot;التعامل مع القضايا الهامشية وغير الضرورية من جانب بعض السياسيين أصبح القضية الرئيسية في البلادquot;. في إشارة إلى الجدل حول القومية quot;الإيرانيةquot; التي يقول كثير من رفاق أحمدي نجاد المحافظين إنها تحمل نكهة القومية العلمانية. وأضافت quot;تبني مثل هذه المواقف ليس له من فائدة سوى خلق الفرقة والانقسام في جبهة الثورة الإسلامية ويلقي ظلالا من الشك على مواقف أساسية.quot;

وكانت أشد الكلمات حدة في المقال تتعلق بتصريحات أحمدي نجاد عن تقليص سلطة البرلمان التي يقول بعض المنتقدين إنها تتناقض مع موقف آية الله روح الله الخميني قائد الثورة الإسلامية الراحل. وقالت المجلة quot;التفسيرات السطحية لأقوال الإمام الخميني وتحويرها بشكل يخدم مصالح قلة من الناس ولفترة قصيرة خطأ لا يغتفر.quot;

وعادة ما يواجه الرئيس أحمدي نجاد ومساعدوه المقربون انتقادات من أعضاء البرلمان والنظام القضائي وبعض رجال الدين المتشددين لقوله إن البرلمان لم يعد في مركز صنع القرار وترويجه للقومية quot;الإيرانيةquot; بدلا من الانتماء quot;الإسلاميquot;.

يشار إلى أنّ هذه الانتقادات وإن بدت الأكثر حدة ووضوحا ضد سياسات نجاد منذ توليه منصبه، فإنها لم تكن الأولى، ففي العام 2009 برزت بوادر لحالة من الانقسام الحاد ظهرت في المنظومة القيادية العليا للثورة الإيرانية بشأن مدى التأييد للرئيس محمود أحمدي نجاد ، مع اقتراب موعد الانتخابات التي جرت في 12 يونيو/حزيران 2009 وانطلقت بموجبها ما بات يعرف بالثورة الخضراء التي قادها اصطلاحيون بارزون وانتهت ndash; تقريبا- بقمعها على أيادي الحرس الثوريّ والاستخبارات وعزل قياديّها وقتل وتعذيب المئات من الشباب الذي خرج للتظاهر ضد نجاد وسياساته مطلقا اتهامات ضده تتعلق بتزوير أصوات الناخبين.

وقال حينها اللواء رحيم صفوي القائد السابق للحرس الثوري الإيراني :quot; تردي الأحوال المعيشية في ظل حكومة نجاد ساهم في انحطاط الثورة الإيرانية ويهدد بسقوطهاquot;.

وأكد صفوي أن قضية تنحية رجال الثورة في ظل حكومة احمدي نجاد عاد بالضرر على تلك الحكومة، متهما بعض المحسوبين على خط قائد الثورة الإيرانية آية الله الخميني بأنهم انحرفوا عن الثورة.

الباسداران..quot;حماة الثورةquot;

يمثّل الحرس الثوريّ الإيرانيّ القوة الرئيسة السياسية والعسكرية والاقتصادية في الجمهورية الإسلامية. ويطلق عليه اسم (الباسدران) وهو نتاج الثورة الإيرانية عام 1979، وأنشأه آية الله الخميني بغرض حماية نظام الحكومة الجديدة الإسلامي. وقد تطور منذ ذلك الحين إلى أن أسهم في إدخال حوالي 125.000 رجل في القوات الإيرانية في السنوات الأخيرة، كما أن لديه قدرات كبيرة في خوض الحروب غير التقليدية وتنفيذ العمليات السرية.

وقال عنه الخميني منذ أكثر من ربع قرن: quot; لو لم يكن حراس الثورة ما كانت الدولة، إنني أوقر الحراس وأحبهم وعيني عليهم، فلقد حافظوا على البلاد عندما لم يستطع أحد، وما زالوا، إنهم مرآة تجسم معاناة هذا الشعب وعزيمته في ساحة المعركة وتاريخ الثورةquot;.

وللحرس الثوري الإيراني قواته البحرية والجوية وهيكله القيادي الخاص بعيدا عن القوات المسلحة النظامية. ولعب الحرس مع ميليشيا المتطوعين التابعة له (الباسيج) دورا رئيسيا في إخماد الاحتجاجات بعد الانتخابات والتي اعتبرت أسوأ اضطرابات منذ الثورة الإسلامية عام 1979.

وكان الهدف الأساسي وراء إنشاء قوات quot;الحرس الثوريquot; هو رغبة الخميني في حماية الثورة الوليدة من الأعداء المحيطين بها، لا سيما الأعداء الداخليين، إذ كانت المخاوف كبيرة لدى رجال الدين من ولاء الجيش الإيراني التقليدي للنظام الثوري، بسبب خضوعه السابق للشاه، وخشي quot;الثوار الجددquot; من إعلان الجيش انقلابه عليهم وإعادة الشاه إلى الحكم كما حدث في عام 1953 عندما انقلب الجيش على رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق وأعاد حكم الشاه بالقوة، لذا فقد أمر الخميني في 5 مايو عام 1979 بتأسيس قوة الحرس الثوري.

وتطورت قوات الحرس الثوري وقدراته منذ ذلك الحين، حتى وصلت إلى شكلها الحالي، حيث تتكون من خمسة أفرع رئيسية هي: فيلق القدس (الفرع المختص بالعمليات الخارجية)، وأسطول الحرس الثوري، والقوات البرية، والقوات الجوية، بالإضافة إلى قوات quot;الباسيجquot;، فضلا عن وجود وحدة استخبارات خاضعة لسيطرته بخلاف وزارة الاستخبارات الإيرانية.

وتختلف التقديرات بشأن الحجم الحالي لقوات الحرس الثوري، حيث تذهب تقديرات المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن إلى أنه يتكون من 350 ألف عنصر، بينما يرى معهد الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن أن عدد أفراده لا يتجاوز 120 ألفا. ويشتغل الباسدران وسط غموض قانونيّ واضح اتاح له التدخل في السياسة والاقتصاد وكافة المجالات الحيوية في إيران.

فالدستور الإيراني ينص في المادة 150 على أن quot;تبقى قوات حرس الثورة الإسلامية التي تأسست فـي الأيام الأولى لانتصار هذه الثورة راسخة ثابتة من أجل أداء دورها فـي حراسة الثورة ومكاسبهاquot;، ولم يحدد الدستور من يتصدى لهم الحرس الثوري لحماية الثورة، هل هم الأعداء الخارجيون فقط أم أن هناك أعداء داخليين أيضا يتحتم مواجهتهم؟ وهو ما يستتبع التساؤل عن مدى شرعية تحول الحرس الثوري إلى قوة سياسية، وهل الدستور يمنع ذلك أم أنه يجيزه لمواجهة أعداء الثورة الداخليين؟

وبالرغم أن القانون ينص على منع أعضاء الحرس الثوري من عضوية الأحزاب السياسية وأي جماعات ومؤسسات سياسية أخرى، فقد أتاح للحرس الثوري التدخل في الحياة السياسية عند تعريفه للمهمة التي يقوم بها، حيث تنص المادة الثانية من الفصل الثاني من القانون على أن دور الحرس يتمثل في quot;محاربة العناصر التي تهدف إلى تخريب أو تفكيك الجمهورية الإسلامية، أو تعمل ضد الثورة الإسلاميةquot;، وتنص المادة الثالثة على quot;محاربة العناصر التي تشن هجوما مسلحا لإبطال سلطة قوانين الجمهورية الإسلاميةquot;.

ولم يحدد القانون طبيعة الأعمال التي يعتبرها quot;ضد الثورة الإسلاميةquot; أو quot;إبطالا لقوانين الجمهورية الإسلاميةquot;، مما أتاح للحرس الثوري ليس فقط التدخل لقمع المعارضة الداخلية للثورة الإسلامية في السنوات الأولى، ولكن الانخراط أيضا، وبصورة ملحوظة، في العمل السياسي.

كما ساهم ارتفاع حدة التوتر بين إيران والغرب بخصوص أزمة البرنامج النووي في تعزيز نفوذ الحرس الثوري، إذ أمكنه تولي الصدارة في إدارة أزمة إيران النووية، وتنحية الأطراف الإيرانية الداعية للتفاوض جانبا، بوصفه الحامي الرئيسي للأراضي الإيرانية بدعم مباشر من علي خامنائي المرشد الحالي لثورة غيران الإسلامية.

سحب الدعم

وبالعودة إلى هجوم الحرس الثوريّ الإيراني على نجاد، يبدو واضحا أنّه وبعد احتجاج برلمانيين محافظين، ومسؤولين قضائيين، وبعض رجال الدين سبق لهم أن اتهموا أحمدي نجاد بمحاولة حشد السلطة في مكتب رئاسة الجمهورية على حساب البرلمان، جاء دور الحرس الثوري ليحتج ويتهم بصورة أكثر علانية ووضوحا.

ويبدي محللون تشككهم في أن المجلة الناطقة باسم الحرس الثوريّ قد شُجِّعت على نشر المقال من قِبل مكتب المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. ورغم ذلك، أوضحوا في الوقت ذاته أنه حتى وإن كان ذلك هو ما حدث، فإنه لا يعني أن هناك خلافاً كبيراً بين آية الله والرئيس، بل إن ذلك يعتبر على الأرجح طلقة تحذيرية تهدف إلى كبح جماح الرئيس محمود احمدي نجاد.

وفي هذا الإطار، نقلت صحيفة quot;ذا ناشيونالquot; التي تصدر باللغة الإنكليزية في العاصمة الإماراتية عن فريدة فرحي، الخبيرة المتخصصة في الشؤون الإيرانية في جامعة هاواي، قولها :quot; لم يكن ينبغي أن يتحول المقال إلى سرد يُبَيِّن سحب الدعم الذي كان يتم منحه لأحمدي نجاد وإلى علامة على سقوطه الوشيك. بل كان ينبغي أن يعطي وقفة لأولئك الذين يواظبون على تفسير نجاح أحمدي نجاد في الحفاظ على السلطة من حيث قاعدة الدعم الذي يحظى به من جانب الحرس الثوريquot;.

وبينما لا يزال آية الله علي خامنئي داعماً للرئيس، لدرجة أنه سبق وأن أعلن أن الانتصار الذي حققه نجاد في الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 2009 هو نعمة quot;إلهيةquot;، رأت الصحيفة أن التخلي عن الرئيس الآن سوف يعني خسارة كبرى لهيبة المرشد الأعلى، القريب في الوقت ذاته أيضاً من بعض أبرز منافسي الرئيس المحافظين، مثل رئيس مجلس الشورى الإسلامي الإيراني صاحب النفوذ، علي لاريجاني.

ولفتت الصحيفة في تلك الجزئية إلى أن هؤلاء المنافسين المحافظين، شأنهم شأن أحمدي نجاد، لديهم حلفاء ويحظون بنفوذ داخل مؤسسة الحرس الثوري.

وأوضحت quot;ذا ناشيونالquot; أن آية الله علي خامنئي سبق له أن طلب في أيلول/ سبتمبر الماضي من الرئيس أحمدي نجاد أن يقبل المزيد من النقد ويُحَسِّن من سبل التعاون مع البرلمان.

وفي هذا الصدد، قال سكون لوكاس، خبير الشؤون الإيرانية في جامعة برمنغهام البريطانية :quot; يبدو الأمر وكأن شخصاً ما من معسكر لاريجاني قد تحدث ربما مع مكتب المرشد الأعلى، وقال ( علينا أن نعمل حقاً لكي تسير الأمور بين السلطة التنفيذية والبرلمان )quot;. وهو نفس الرأي الذي اتفق عليه محلل بارز في طهران، رفض الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع، بقوله :quot; لقد فشلت الضغوط المعتادة في ما وراء الكواليس وكذلك التذمر الذي يبديه لاريجاني وآخرون بين الحين والآخر، مما يؤدي إلى الحاجة لتوجيه تحذير علني أكثر وضوح لأحمدي نجادquot;.

وبينما سبق لخامنئي أن دعا مراراً وتكراراً إلى ضرورة العمل من أجل الوحدة الوطنية، قالت الصحيفة إن الانقسامات الواضحة والمتواصلة داخل بنية السلطة في إيران تأتي في الوقت الذي تحاول أن تتكيف فيه طهران مع العقوبات التي فُرِضت عليها بسبب برنامجها النووي، وفي الوقت الذي تُجَهِّز فيه نفسها لاحتمالية مواصلتها المحادثات النووية مع أبرز القوى العالمية في وقت لاحق من الشهر الجاري.

مدرسة الفكر quot;الإيرانيّquot; بدلا عن quot;الإسلاميّquot;

انتقدت مجلة الحرس الثوري أيضاً مكتب الرئيس أحمدي نجاد لسعيه إلى دعم وترويج مدرسة الفكر الإيراني بدلاً من مدرسة الفكر الإسلامي.

وهذا الانتقاد تم توجيهه إلى مدير مكتب الرئيس، اسفنديار مشائي، الذي تحدث عن quot;مدرسة إيرانيةquot; للإسلام، الأمر الذي تسبب في إثارة غضب رجال الدين المحافظين، الذين قالوا إن التصريح يُشتمّ منه رائحة القومية العلمانية، وطالبوا في الوقت ذاته بضرورة أن يتقدم مشائي باستقالته على الفور.

لكن الرئيس وقف إلى جواره، وسط تكهنات تتحدث عن أن نجاد يقوم بإعداده في تلك الأثناء لكي يخوض غمار الانتخابات الرئاسية عام 2013.وقد جاء المقال الذي تم نشره بمجلة الحرس الثوري بمثابة التذكير بأن خطوة مثل هذه ستواجه معارضة شرسة.

ودعت المجلة في سياق حديثها الرئيس أحمدي نجاد إلى التركيز على قضايا quot;حقيقيةquot; مثل البطالة والتضخم، بدلاً من القضايا الهامشية أو المُسَبِبة للشقاق. ورغم الانتقادات المكثفة التي يواجهها نجاد من الزملاء المحافظين، إلا أن محللين يؤكدون أن موقفه آمن على ما يبدو لأن يتمتع بالدعم العلني من جانب المرشد الأعلى الإيراني.

وهنا، عاود المحلل الإيراني البارز الذي رفض الكشف عن هويته لصحيفة quot;ذا ناشيونالquot; ليقول :quot; سيواصل خامنئي مساندة نجاد حتى يفشل أداء الرئيس وسياساته الداخلية فشلاً تاماً ويصبح تهديداً حقيقياً على النظام وبالتالي على المرشد الأعلى. لكن ليس هنالك من علامات حتى الآن تدل على أن خامنئي يحاول أن ينأى بنفسه عن نجادquot;.