أثار القرار الصادر عن مجلس محافظة بغداد بغلق جميع النوادي الليلية ومحال بيع المشروبات الكحولية وتحذيره المخالفين بالتعرض للمساءلة القانونية، استغراب العديد من المثقفين العراقيين والمواطنين، ورأت الأكثرية أن تفعيل مثل هذا القرار سيشجع على الجريمة وتفشي ظاهرة الإنحراف.


بغداد: اعتبر القرار الذي أصدره مجلس محافظة بغداد بغلق جميع النوادي الليلية ومحال بيع المشروبات الكحولية وتحذيره المخالفين بالتعرض للمساءلة القانونية، تدخلاً فاضحاً في الحريات الشخصية ومخالفة صريحة للدستور العراقي الجديد.

واستغرب العديد من المثقفين العراقيين والمواطنين هذا القرار معبرين عن سخطهم للقرارات الإرتجالية التي يتخذها أشخاص وفق اجتهادات شخصية ولإرضاء بعض من لا يعجبهم أن تعيش بغداد في أجواء من المرح والترفيه والحرية والسهر.

وأشار هؤلاء إلى أن هذا الإجراء يمثل نوعاً من الضغط الذي يولد الغضب والنفور والتمرد عند البعض، مما يجعلهم يلجأون إلى البحث عن البدائل ومنها المخدرات. واعتُبرت هذه التجربة التي سبق أن طبقت في زمن النظام السابق، أنها السبب الرئيس في عواقب اجتماعية وخيمة وانتشار بدائل من أبرزها استخدام quot;السيكوتينquot; والحبوب المخدرة.

الهدف تنظيم المهنة

جاء القرار كما لفت البعض دون سابق إنذار ودون سبب واضح، حتى أن البعض ظن أن القرار مؤقت سببه اقتراب شهر محرم، ولكن تبين أن الأمر يتعدى ذلك إلى المنع النهائي وإن قال المسؤولون أنه عبارة عن إجراء للحصول على إجازات لا أكثر.

وقال رياض العضاض نائب رئيس مجلس محافظة بغداد quot;لا يمكن السماح بفتح نواد ليلية في بغداد، وما يسمح به فقط هو فتح المنتديات الثقافية والعلمية، ومن يخالف التعليمات سيتعرض للمساءلة القانونية ويحال إلى القضاءquot;، مؤكداً أن quot;قرار الإغلاق استند إلى قرارات صدرت في عهد النظام السابق، وما زالت سارية المفعولquot;. وأوضح العضاض أن quot;الغاية من إغلاق جميع النوادي الليلية ومحال بيع المشروبات الكحولية هو تنظيم عملها والحصول على تراخيص ممارسة المهنةquot;، وهو ما جعل البعض يستغرب هذا التصرف، خصوصاً مع اعتراف البعض أنه حصل على هذه الإجازة من عدة جهات حكومية ومنها أمنية.

ويقول الفريد سمعان أمين سر اتحاد الأدباء في العراق quot;الغريب أن الحملة شملت كل النوادي ولكن هناك نواد لم يشملها الأمر، مثل نادي العلوية الذي لم يقترب منه أحد ونادي الصيد أيضاً، والغريب أن معظم النوادي عادت إلى العمل ولأسباب غير معروفةquot;، ويعتبر سمعان أن quot;القرار في مجمله تقييد للحريات وللحرية الفردية، ونحن لم نجبر أحداً على القدوم إلى النادي ولا نجبر أحداً على أن يقوم بأي عمل آخر، فالحرية وكرامة الإنسان أهم شيء في الحياة، وهذا ما يجب أن تسعى إليه السلطة، ويجب أن تعالج الأمر بسرعة لأنه لا يليق بحكومة ما زالت تتخبط حتى الآن ولا تعرف ماذا يجريquot;، مشيراً إلى أن quot;الفساد المستشري في البلد أخذ يزحف إلى كل الأماكن وللأسف الشديد بدأ يصل إلينا كأدباء ومثقفين نسعى بكل جهودنا وبما نملك من طاقات إبداعية لرفع شأن العراق والوقوف مع السلطة الوطنية في مجابهة الأحداث المختلفةquot;.

ولفت سمعان إلى أن quot;الحدث كان مفاجئا بالنسبة لنا، وجاء غلق النادي بشكل اعتباطي غير مسؤول، ومن المفروض أن تجري التبليغات في أوقات الدوام الرسمي، لكننا جوبهنا بمجموعة على رأسها مدير مركز شرطة السعدون وممثل السياحة وثلاثة أفراد من الشرطة، فرضوا علينا التوقيع على تعهد بعدم فتح النادي دون أن ندري السبب فهم يقولون quot;لعدم الحصول على إجازاتquot;، لكن أين كانوا طوال الفترة الماضية؟ ولماذا لم يبلغوا الإتحادات والنوادي بغلق أبوابها في حالة عدم الإنتباه إلى ذلك؟ لماذا لم يقوموا بجهد خاص وبشكل مناسب يتفق وينسجم مع مكانة الأديب العراقي وكرامته وحريته في القيام بما يريد؟ نحن لسنا محلا لبيع المشروبات بل نحن نادٍ اجتماعي يقوم الأدباء بالاستراحة فيهquot;.

محاصرة للحريات

في هذا الإطار يرى الناطق الإعلامي باسم اتحاد الأدباء الشاعر إبراهيم الخياط أن quot;القرار يستند إلى قرار سيء سابق لمجلس قيادة الثورة المنحل رقم 82 لسنة 1994، في حين أن صدام حسين وهو يعلن ويمارس حملته الإيمانية المزعومة ويطلق على نفسه لقب عبد الله المؤمن لم يتجرأ على غلق نادي الإتحاد، فاستثناهquot;، وأضاف quot;يعتبر اتحادنا قرار غلق ناديه الإجتماعي قراراً غير حكيم، ومؤشراً خطيراً على محاصرة الحريات المدنية، ويُطالب رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية ووزير الداخلية بالتدخل والسماح بفتحه، لأن العراق لا يحتمل فرض لون واحد على قوس قزحه الجميلquot;.

ووافقه الكاتب صلاح زنكنة الرأي فاعتبر quot;هذا تدخلاً سافراً في الحريات وأتصور أن غلق النوادي التي يجلس فيها الناس ويمارسون فيها طقوسهم شيء يذكرنا بالحملات الإيمانية الكاذبة، وللأسف الشديد أن الذين أصدروا هذه القرارات ليرضوا أطرافاً أخرى وتحديداً أطرافاً دينية تنظر إلى الحياة بشكل سوداوي ولا يريدون لأهل العراق أن يكونوا فرحين ويعيشون حياتهم كما هي، فهل من المعقول أن أحرم هذا العراق البلد الحضاري من أماكن اللهو، فمن حق الإنسان ممارسة ما يريد على أن لا يتقاطع مع حريات الآخرينquot;، ولفت إلى أن quot;العراق بلد علماني ومنذ العصر العباسي هناك في العراق حانات أكثر من كل بلد في العالم، ويسجّل هذا لبغداد لأنها بلد مفتوح وفيها كل الشعوب والأديان وكل الطوائف والأعراق.

وهذا التعدي على الحريات انتقده الكاتب سامي كاظم معتبراً أن quot;الإصرار على اتخاذ هكذا إجراء هو تدخل سافر في الحرية الشخصية، كذلك فإنه إجراء يماثل إلى حد ما، ما كان يعمل به الطاغية تحت مسميات شتى من بينها وأبرزها ما يدعى بالحملة الإيمانية، إلى جانب ذلك فإن هذه القرارات الجديدة ونتائجها ستؤدي لإنتشار تعاطي المخدرات والحشيشة والعقاقير، وهذا سيؤدي حتما إلى مسالك الجريمة والشذوذ وغير ذلكquot;.

سخرية شعبية

هذا القرار كان محل سخرية واستغراب العديد من المواطنين الذين أكدوا quot;أنه قرار غير حكيم ولا يتطابق مع حالة العراق الجديد حيث يقول الدستور أن الحريات الشخصية محفوظةquot;، فقال سلام مريوش quot;أعتقد أنه قرار متسرع وغير حكيم ويشبه القرارات التي كان يصدرها الدكتاتور، وكلنا عشنا تلك الأيام التي تحولت فيها البيوت إلى حانات وامتلأت الشوارع بالسكارى، وأصبحت مصطلحات quot;الكبسلةquot; هي السائدة في المجتمعquot;، وأضاف quot;أنا لا أشرب الخمر ولا أجلس في النوادي، ولكن لكل إنسان حريتهquot;.

أما المواطن أحمد إبراهيم فقال quot;أعتقد أن القرار غير صحيح وسيؤدي إلى آثار سلبية لأنني أؤمن أن كل ممنوع مرغوب، والمنع سيؤدي لإصرار الآخرين على فعل ما يريدون حتى لو قاموا بتصنيع المشروب بأنفسهمquot;، وأضاف quot;يبدو أن الحكومة ليس لديها عمل سوى مطاردة هؤلاء المساكين الذين هم ألطف الناس ولا يؤذون أحداً، وكثيراً ما سمعنا أخبار الغلق بين فترة وأخرى، والظاهر أنهم يريدون شغل أنفسهم بهذه الحكاياتquot;.

الدستور يكفل الخصوصية

والتقت quot;إيلافquot; القانوني هاشم رضا الذي قال quot;القرار ضد الحرية الشخصية التي كفلها الدستور، حيث ينص الباب الثاني من الدستور العراقي الدائم في مادته السابعة عشرة على أن لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين والآداب العامة، كما أشارت إلى أن للمواطنين، رجالاً ونساءً حق المشاركة في الشؤون العامة، فيما نصت المادة 46 من الباب نفسه، على ألا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناء عليه، على أن لا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحريةquot;.

وأضاف quot;برأيي المتواضع كمواطن سيؤدي القرار إلى تشريد الكثير من العاملين في هذه الأندية، ناهيك عن أمر مهم جداً وهو أن غالبية العاملين في هذه المهنة هم من إخواننا المسيحيين ومعنى هذا أنهم سيجدون أنفسهم بلا عمل وسنمنحهم الفرصة للهجرة خارج العراق بعد أن يصعب عليهم العيش داخل وطنهمquot;.

ومن الرواية تؤخذ الحكمة

يشير الكاتب عبد الله السكوتي إلى حكاية بطلها رئيس وزراء العراق الأسبق نوري السعيد، فيقول quot;يحكى أن مجلس النواب في العهد الملكي، وفي وقت كان فيه نوري السعيد رئيساً للوزراء، صوّت لغلق الملاهي والحانات والنوادي الليلية، فلم تمتثل الحكومة لهذا الأمر وجادل السعيد النواب في عدة جلسات للعدول عن التصويت، فلم يوافقوه على ذلك وكانوا مصممين على موقفهم، فصمم هو الآخر على أمر دار بخلده وقرر تنفيذه. فقام بدعوة النواب إلى داره لتناول طعام العشاء، وأمر من يقوم على خدمتهم بغلق جميع المرافق الصحية والحمامات، وأولم لهم بما لذّ وطاب، من مشروبات وطعام، وحين أراد النواب الذهاب إلى الحمامات وجدوها مقفلة، هذا بعد سمر طال أمده. واحتج نوري السعيد بشتى الحجج ليبرر غلق حمامات قصره، فما كان من النواب إلا استخدام حديقة القصر لقضاء حاجاتهم، فدبت الفوضى والروائح الكريهة والمناظر غير السارة، وحين عاد النواب من الأعيان والشيوخ، ألحوا على نوري السعيد لمعرفة سبب هذا التصرف، فقال: أنتم تريدون إغلاق النوادي الليلية والمراقص والملاهي، وحينها سيفعل الناس ما فعلتم، ستمتلئ الشوارع والأزقة والمناطق السكنية بمن يريد ممارسة ما تمليه عليه غريزته وسيصبح quot;الميدانquot; في كل المناطق وستكون المشارب هي الطرق، فلماذا لا تدعون الأمر مقنناً وله أماكن يرتادها روادها، حينها اقتنع النواب وألغوا تصويتهم على القرارquot;.