آثار فينيقية في مدينة صيدون اللبنانية

عشرون عامًا مضت على انتهاء الحرب الأهليَّة اللبنانيَّة، ولا يزال سجال الهويَّة قائمًا. اللبنانيون فينيقيون... لا، بل هم عرب! أصوات تعلو، ومواقف تسجّل كلمّا طرح موضوع الهويَّة محورًا للنقاش. إلا أنَّ علم الوراثة جاء ليحسم الجدل ويخبر المتنازعين بأنَّ الانتماء إلى العروبة لا يتناقض علميًّا مع الأصل، فهل يسيّس العلم ايضًا تحت شعارات تتفق على عدم الالتقاء؟

بيروت: تؤكد ريبيكا الطالبة الجامعية اللبنانية، انها quot;فينيقيةquot;. وتقول quot;بالتأكيد، انا من أصل فينيقي قبل كل شيء. لا اعتقد ان اللبنانيين هم عربquot;، مضيفة quot;نحن موجودون هنا منذ الاف السنينquot;. تقاطعها صديقتها ماريان (22 عامًا)، لتضفي بعضًا من الدبلوماسيَّة بالقول quot;لا يمكننا ان ننكر عروبتنا، لكننا لسنا عربًا بالفعل، فنحن منفتحون اكثر من غيرناquot;. اما شحادة (50 عامًا) الموظف المتقاعد، فله رأيآخر، ويعتبر أنَّ quot;اللبنانيين يتشابهونquot;، مؤكدًا quot;نحن عرب، ولا مجال للجدال حول ذلك، فنحن نعيش في محيط عربيquot;... وعلى هذا النحو يستمرّ النقاش ويطول،محتدمًا ومتصلبًا، ليعكس عنصرًا أساسيًّا تتّفق حوله الأغلبيّة العظمى من اللبنانيين - مواطنون وزعماء - ألا وهو quot;عدم الاتّفاقquot; والتمييز والتفرقة.

الجدل عقائدي لا علمي
غير ان علماء الاجتماع والوراثة يعتبرون ان الاسس التي قام عليها هذا الجدل في الماضي ولا يزال بعضهم يستند اليها غير قائمة من المنظار العلمي والتاريخي.

تباهى اللبنانيون عبر تاريخهم الحديث بان استقلال بلدهم نتج عن تنازل المسلمين عن فكرة ضم لبنان الى دولة عربية أكبر، وتخلي المسيحيين عن الوصاية الغربية التي كانت متمثلة بالانتداب الفرنسي.

ويقول عالم الاجتماع والمؤرخ بطرس لبكي quot;هناك مفهوم في عقول بعض اللبنانيين هو نتيجة رواسب الماضي وتركيب هويات متناقضة خلال القرنين الاخيرين لدعم مطالب سياسية وطائفيةquot;. ويضيف quot;كل طائفة ارادت اضفاء الشرعية التاريخية على خياراتها السياسية وعلى نفوذها من خلال الهوية. وراء كل اعلان حول الهوية كان يوجد مشروع سياسيquot;. ويشير لبكي الى جدل عقائدي بدأ مع القرن العشرين بين المسيحيين الموارنة الذين شكلوا الطائفة الاكثر نفوذا في لبنان منذ الاستقلال وحتى اندلاع الحرب الاهلية (1975-1990)، والمسلمين بشكل عام.

وتباهى اللبنانيون عبر تاريخهم الحديث بان استقلال بلدهم نتج عن تنازل المسلمين عن فكرة ضم لبنان الى دولة عربية أكبر، وتخلي المسيحيين عن الوصاية الغربية التي كانت متمثلة بالانتداب الفرنسي. غير ان ذلك لم يجعلهم يتفقون على هوية لبنان. وقد علق الصحافي اللبناني المعروف جورج نقاش في تلك الفترة على هذا الموضوع بعبارة باتت شهيرة وفيها ان quot;سلبيتين لا تنشآن امةquot;. ولعل هاتين السلبيتين هما اللتان انتجتا مادة في الدستور اللبناني تقول ان لبنان quot;ذو وجه عربيquot;.

والغى اتفاق الطائف الذي وضع حدا للحرب الاهلية هذه المادة ليصبح لبنان بموجب مقدمة الدستور quot;عربي الهوية والانتماءquot;. وهدأ السجال حول الموضوع، لكنه لم ينته. وكان المسيحيون الذين يشكلون اقلية في الشرق يخشون الذوبان في محيطهم العربي، فتوجهوا نحو الغرب. في المقابل، بالغ المسلمون المطالبون في سنوات ما بعد الاستقلال (1943) بدور اكبر في السلطة، في المزج بين الاسلام والعروبة.

وبلغ الجدل اوجه خلال الحرب عندما ازداد رفض الشريحة الكبرى من المسيحيين الذين خاضوا حربًا شرسة ضد الفلسطينيين وارادوا بشتى الوسائل تأكيد اصالتهم في هذه البلاد، وانهم من احفاد الشعب الفينيقي القديم الذي عرف بمهارته في التجارة والملاحة البحرية.

جدل يقطع الحدود
ولا يزال السؤال يثير جدلاً لدى طرحه، حتى في الخارج. وقد ابدى الرئيس السوري بشار الاسد استغرابه في حديث صحافي اخيرًا من quot;قول البعض في لبنان انهم ليسوا عربًا بل هم فينيقيونquot;. واثبت العلم ان الانتماء الى العروبة لا يتناقض مع الاصل الفينيقي.

العروبة انتماء حضاريّ
ويقول الاختصاصي في علم الوراثة من الجامعة اللبنانية الاميركية الدكتور بيار زلوعا انه اجرى دراسة حول الجينات الوراثية للشعوب في سوريا ولبنان وفلسطين نشرت قبل اشهر واثبتت ان السكان الذين ينتشرون على هذا الساحل المشرقي يحملون تقريبًا الجينات نفسها.

ويضيف quot;ان نسبة تشابههم اكثر من نسبة اختلافهمquot;. وكان زلوعا قد نشر في 2008 دراسات حول اصول الشعوب في الشرق الاوسط بينت وجود آثار من جينات فينيقية quot;في الحمض الريبي النووي ل30% على الاقل من اللبنانيينquot;. ويقول لوكالة الانباء الفرنسية quot;دهشت لوجود هذه الكمية من الآثار الجينية بعد مرور الاف السنينquot;.

lt;lt;القواسم المشتركة جينياً بين اللبنانيين هي أكثر من تلك التي تفرّقهم. جينياً أي علمياً: يستحيل تقسيم الشعب اللبنانيgt;gt;

الا ان الباحث الذي نشر دراساته في مجلتي quot;اميركان جورنال اوف هيومن دجينيتيكسquot; وquot;انالز اوف هيومن دجينيتيكسquot; العلميتين، يؤكد ايضًا ان هذه الجينات ليست حكرًا على طائفة معينة. فقد يكون حامل الآثار الفينيقية، مسيحيًا او مسلمًا. ويوضح ان الفينيقيين quot;عاشوا قبل الديانات والانقسامات الجغرافية والسياسيةquot;.

ويشير زلوعا الى انه عثر ايضًا في لبنان على آثار جينية كثيرة مصدرها شبه الجزيرة العربية تعود الى تاريخ الفتح الاسلامي على الارجح، واخرى الى الحملات الصليبية. ويرى ان اختلاط المفاهيم في هذه المسالة ناتج عن ان بعضهم يعتبرون العرب اتنية متجانسة. ويقول ان quot;العرب لا يشكلون اتنية. يمكنني ان اكون من اصل فينيقي وان اكون عربيًّا لأن العروبة مرتبطة باللغة وبالثقافةquot;، لا بالدين والوراثة الجينية.