تشهد مقبرة وادي السلام في مدينة النجف يوميا الاف الزوار الذين يأتون الى القبور للتنفيس عن انفسهم، ولاخراج الحسرات من نفوسهم... فما زالت في النفوس حسرات كثيرة من الفراق ومن الحياة وصعوباتها، فلا يجد العراقيون سوى المكان الذي دفنوا فيه الاحباء للتعبير عن مشاعرهم مصطحبين معهم ماء الورد واعواد البخور.

ربما تعتقد أنّ الناس ستكون مضطرة الى دخول هذه المقبرة، وهي تودع اعزاءها واحباءها في ايام مماتهم، وتذرف الدمع وتفتح كل الابواب للبكاء والحزن، وهو امر لابد منه، ولكن الغريب هو عندما تشاهد المقبرة وهي لا تخلو من الزائرين ومن عائدين الى زيارة احبائهم بمناسبة او من دون مناسبة، او تجد هنالك من يدخل لترويض النفس والبحث عن الهدوء النفسي قد يفاجئك عدد الذين تراهم في المقبرة المترامية الاطراف وربما في لحظة تعتقد نفسك تمشي في احد الاحياء فترتعد خوفًا ورهبة وانت تتقدم لتدخل المكان وتتطلع الى الاطلال والى الصور والكتابات المختلفة الاشكال والالوان.

لا ادري لحظتها لماذا ركز على ذاكرتي مقطع قالته الشاعرة النجفية فليحة حسن ورحت اردده طوال الطريق مع نفسي، تقول فيه : quot;حين أتسلق كتف مدينتنا / لا أبصر غير اثنين / بقايا ذاكرة وجثامين تجهل وجهتها أينquot;!!، فمن يتسلق كتف النجف لا يرى سوى الحزن نابتًا على ارصفة الطرقات كالاشجار، وعلى الوجوه مثل علامات فارقة، ولا يرى غير تلك المتاهات التي تنتشر على مساحات واسعة من الارض وقد حطت الجثامين رحالها وانحدرت في غياهب بعيدة.

تلك التي اخطو للدخول اليها هي.. مقبرة وادي السلام في مدينة النجف، كانت الطرقات الثلاث المؤدية الى بواباتها الثلاث العاليات تشكو من زحام واضح، طوابير من السيارات في الشوارع الطويلة الممتدة الى باطن المدينة، هناك بطء في.. حركة الدخول، فتعرف في ما بعد ان الزحام سببه كثرة السيارات التي تروم الدخول الى المقبرة وفروض التفتيش الامني بالقرب من تلك البوابات، حيث تشاهد عددًا من السيارات العسكرية والجنود عند رأس البوابة، وتستغرب لحظتها : ما معنى التفتيش؟!!، فالعابرون سيذهبون لملاقاة موتى !!، هل يمكن ان تكون هناك تراجيديا اكثر مما هي عليه، ربما تحاول ان تستدرك بالسخرية ولكن قد تتفاعل مع المشهد حيث يجري تفتيش التوابيت ايضًا بعد فتح اغطيتها بأجهزة، ولا بد للميت ان يخضع في آخر خطواته نحو الدفن الى التفتيش وان لا يعبره جسده دون ان ينال لمسات من جهاز التفتيش الالي.

على الطريق.. يلفت انتباهك على طول تلك المسافة، سواء على الارصفة او في نهر الشارع، تلك الاعداد الكبيرة من الاشخاص الكبار والصغار الذين يحملون بأيديهم قناني ماء الورد وعلب اعواد البخور، حيث ينادون من اجل بيعها الى العابرين منهم، الجميع يبيع هاتين البضاعتين المكدستين على الارصفة بشكل لافت للنظر، ويبدو انها من طقوس زيارة القبور حيث هناك لا بد من رش ماء الورد واشعال اعواد البخور مع التهجدات التي يبذلها الزائر والتي سيكون للدمع والانين علاقة في المشهد العام.

قال لي الرجل الذي يجلس بجانبي: حين تذهب الى قبر الميت لتزوره لابد من ان تحمل معك هدية له مثل الدعاء وقراءة القرآن وسورة الفاتحة، ولكن تجد من الضروري ايضا ان تحمل له معك اشياء مادية مثل ماء الورد واعواد البخور حيث سمعت ان البخور يطرد الارواح الشريرة، انا في كل مرة افعل ذلك وابكي.

هززت رأسي ردًّا على كلام الرجل ونظراتي تلاحق الصبية الذين يحومون حول السيارات مستغلين الزحام، ولا شك ان صياحهم في الاغلب لم يتم الاصغاء له فالانكسارات في المستقلين السيارات ونواح النسوة وعويلهن لا يسمح بالسماع ولا بالتجاوب مع النداءات التي يصر على اطلاقها الصبية بشيء من التأكيد والاصرار.

لا يمكنك ان تتحدث ازاء تلك اللقطات، تشعر ان لسانك عاجز على ان يصيغ تعابير ما ترى العيون، وتضطر الى ان تدفع نظراتك بعيدا في المسافة، الى البوابة التي لا ترى منها سوى اعاليها تريد ان تدخل راكضا الى المقبرة لتنتهي من طقوس لا بد منها اولها واخرها البكاء، ومع مرور الوقت عبرنا سيطرة التفتيش ومن ثم دلفنا من البوابة العالية لنجد انفسنا امام منظر مذهل، امام فيضان من الركام، ذلك تشعره ركاما حيث يصدمك المنظر في اختلاف احجام القبور المشيدة والمتلاصقة جدا والتي تراها لاول وهلة متراكمة بعضها فوق بعض حيث قبر منخفض واخر كبير او مزدان بديكور ما، لابد ان تجد ان الصمت وحده من له السيطرة عليك، ما تراه امامك يذهلك، اكوام من الطابوق بألوان كابية ترابية لا يبدو انها تمتلك القدرة على الحركة ولا الحياة، لكنها تستوقفك وتجعلك تتأمل ملامحها وهي غابة من تضاريس ربما لا تقوى على عبورها.

كان هذا الشارع العريض الطويل يمتد حول المقبرة ويؤدي بالمباشر الى ضريح الامام علي بن ابي طالب (ع) الذي لا بد ان تذهب اليه قوافل الزائرين اولاً، كان الشارع ممتلئا بالسيارات والناس، ولابد من الترجل والسير مسافة ليست بالقصيرة، وهناك تشاهد عربات الدفع اليدوي الخشبية وهو تحمل كبار السن او عربات بمحركات صغيرة وهي ما يطلق عليها لقب (الستوتة) لنقل الزائرين الى مكان قريب من الشارع المؤدي الى ضريح الامام، لا اعرف لماذا مع اولى خطواتي على الشارع تذكرت ما سمعته عن بعض التجديد و (العمران) للشارع، حيث اصبح عريضا نوعًا ما، ولكن تحيط به القبور من الجانبين، من ذلك اعتقدت ان الشارع هذا كان في السابق قبورًا، وان كل السائرين على الشارع انما يسيرون على رفات اكلها الزمن.

سألت احد الماشين ان كان الشارع قبورًا درست، فقال : في السابق لم يكن الطريق من هنا ومثلما نرى، ويبدو ان التوسعة في الشارع اخذت من بعض القبور، فهذا الحائط ( واشار الى السور) بني خلال السنتين الاخيرتين وهو يمثل السور الجديد للمقبرة، واضاف : باعتبار المكان كله مقبرة فإنّ الشارع جزء منها، والارض التي تحتنا تضم امواتًا ولكن من زمن بعيد كما يقال، وكلام الرجل جعلني امشي على اطراف اصابعي بشكل عفوي ومن ثم اردد قول ابي العلاء المعري مخاطبًا به نفسي : quot;خفف الوطء، ما أظن أديم الأرض إلاّ من هذه الأجسادِ / رُب لحد صار لحداً مراراً، ضاحكاً من تزاحُم الأضدادِquot;، وبالفعل.. مرت بي هواجس كثيرة، فلا فرق في المساحة بين القبور على الجانبين.

هذه المقبرة.. لايمكن للعين ان تختزلها، فهي مترامية الاطراف، وتتكاثر وهي تزداد اتساعا، لا ترى في واقع الحال الا اوجاعًا وبكاء زاخرا، وفي التجوال فيها لا يسعك الا ان تتمزق، ويمكنك ان تكتب الكثير من الخواطر والانثيالات، واذ لا يحزنك الموتى في قبورهم ولا تحزنك تلك الصور التي ترسم ملامح لمن سكنوا تحت الارض لاسيما منهم الشباب والاطفال، فأن ما يحزنك اكثر هم الناس الزائرون الذين تجدهم ينكبون وينحنون على تلك الاحجار ذارفين الدمع، باذلين النحيب، مطلقين النشيج، لا تدري أي بلوى في نفوس هؤلاء.

سألت رجل دين في ما بعد عن هؤلاء فقال : للناس احبة فقدوهم ويجدون في فراقهم صعوبة فيأتون الى القبور للتنفيس عن انفسهم، لاخراج الحسرات من نفوسهم، فما زالت في النفوس حسرات كثيرة من الفراق ومن الحياة وصعوباتها، مما يعانيه هؤلاء فلا يجدون سوى المكان الذي دفنوا فيه احباءهم للتعبير عما يعانون منهم.

وادي السلام.. هي مقبرة مدينة النجف ( 160 كم جنوب العاصمة بغداد )، تمتد على مساحة نحو ستة كيلومترات مربعة، يقال ان عمرها تجاوز 1000 سنة، وهي أكبر مقبرة إسلامية في العالم، وتضم نحو خمسة ملايين قبر، وربما اكثر حيث ان من يدور في الارجاء ويرى تراكم القبور عبر تلك السنوات المعبئة بالموت لن يعتقد بغير عدد اكبر، فالمسافات اصبحت تطل على (بحر النجف) حيث يقول الدكتور عبد الهادي الفرطوسي رئيس اتحاد النجف انه الذي quot;كانت سفن الهند والصين تمخره في سالف الأزمان، والذي تقع على ساحله الشرقي القصور المنيفة والأديرة العامرة كالخورنق والسدير والأبيـّض والعدسيين ودير هند ودير الأساقف، وقد كانت تلك السفن تأتي من أقاصي الأرض إلى الأبلّة، قبل أن تبنى البصرة، وتأخذ طريقها النهري عبر الفرات لتنزل من جهة السماوة إلى بحر النجف عبر فروع الفرات وجداوله، ذلك هو الطريق المألوف إلى بحر النجف، حتى أن جيش المسلمين في عهد الفتوحات الأولى، حين وصل إلى منطقة أليس (السماوة) متجها إلى الحيرة، انقسم على قسمين: قسم سلك طريق الصحراء وآخر سلك طريق البحر) مضيفا ان: الأهمية التاريخية لبحر النجف ظلت قائمة حتى العصر العثماني، إذ كان هذا البحر يستخدم لنقل الزوار والبضائع، وكانت سفن البرتغاليين تأتيه حاملة البضائع من أوروبا، لتلتقي هناك بسفن الهند ويتحقق التبادل التجاري في النجفquot;.

وهذه القبور لا تضم عراقيين فقط بل من بلدان اسلامية شتى، ومثلما تضم بين طيات ترابها رفات الناس العاديين تضم رفات علماء ومفكرين، وهي لن تسد بابها بوجه احد مهما كان شكله او جنسه او معتقده او درجة ايمانه، تأتيها قوافل حاملين احبتهم على آلات حدباء من جميع المحافظات، من مسافات تظل تكابد التعب المرير والعناء، وتنشرح ازاء الوصول حيث الكل يتململ من عنائه ويطلق لنظره السفر على خرائط القبور.

الشارع الممتلئ بالناس لا يوحي بغير الاسئلة التي تظل بلا اجوبة، فالاعداد الكبيرة الداخلة الى المقبرة ان تمت متابعتها ستجدها تتفرق بين القبور، تندس بين المساحات الصغيرة جدا والتي هي بمثابة ممرات، وتجلس هناك، لا عجب ان ترى الاحياء ينادون الموتى ويشكون اليهم ويغسلون بالدمع بناء القبر، ثم انك لا تشعر ان هؤلاء يخافون من شيء وان قيل ان المقبرة مخيفة، ولكن يبدو ان من يدخل المقبرة يشعر في لحظات انه حي بالاسم فقط ويتمنى من الجهد والشوق والحنين الى عزيزه وحبيبه الميت لو ينام معه.