سويعات قليلة تفصل الشعب التونسي عن انتخاب المجلس التأسيسيّ الثاني في تاريخ بلادهم، وظيفته الأساسية سنّ دستور جديد لتونس وتسيير البلاد لفترة لن تقلّ عن عام واحد على الأقلّ. وفي الوقت الذي اختتم فيه المرشحون، أحزابا ومستقلين حملاتهم الدعائية،ما زال البعض لم يحسم قراره بعدُ.


انتخابات تاريخية في تونس نتائجها غير معروفة سلفاً للمرة الأولى

تونس: مع اختتام الأحزاب والقائمات المرشحة لانتخابات المجلس التأسيسي في تونس حملاتها الدعائية مساء الجمعة عند ساعة صفر (23.00 بتوقيت غرينتش)، يحبس التونسيون أنفاسهم مع اقتراب موعد الحسم لاختيار من يمثلهم في المجلس التأسيسي التاريخي الذي سيسنّ دستورا جديدا للبلاد، الأمر الذي لا يبدو متاحا سوى مرة وحيدة في القرن أو مرتين على أقصى تقدير.

وعقد المنافسون الرئيسون في أول انتخابات حرة بعد سقوط الرئيس السابق زين العابدين بن علي، تجمعاتهم الانتخابية الختامية يوم الجمعة، وأطلق معظم المرشحين وعودا بالحفاظ على quot;النموذج التونسيquot; الحداثي، وتعهدوا احترام مكانة المرأة وتحقيق أهداف ثورة الرابع عشر من يناير.

وسيدلي أكثر من أربعة ملايين تونسي وتونسية، باحتساب عدد المسجلين إراديا وقرابة 7 ملايين ممن يحق لهم الانتخاب قانونيا، بأصواتهم صباح الأحد لاختيار مجلس تأسيسي سيعمل على كتابة دستور جديد وتشكيل حكومة موقتة جديدة قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المتوقع إجراؤها العام المقبل.

الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قالت في بيان لها الجمعة إن السبت هو يوم quot;الصمت الانتخابيquot; وان خرق هذا الصمت quot;جريمة انتخابية يعاقب عليها القانونquot;.

ويشير معظم التوقعات إلى أنّ حزب النهضة الإسلامي الذي كان محظورا لوقت قريب إلى انه الحزب الأوفر حظا في أول انتخابات من هذا القبيل بعد أن أشعل التونسيون في يناير كانون الثاني موجة من الانتفاضات العربية عندما أطاحوا بحكم الديكتاتور زين العابدين بن علي الذي استمر 23 عاما وشهد حكمه عدة انتخابات مزورة.

وحتى إذا فاز حزب النهضة الإسلاميّ بغالبية الأصوات، فإنّ نظام التمثيل النسبي المطبق في انتخابات المجلس التأسيسي في تونس قد يحدّ من نصيبه إلى نحو 30 في المئة من الأصوات في حين يأمل الحزب التقدمي الديمقراطي أن يدفع بأقصى ما يمكنه فوق نسبة العشرين في المئة، وسط أحاديث من هنا وهناك عن تحالفات مستقبلية في صلب المجلس التأسيسي بين عدد من الأحزاب quot;التقدميةquot; للحد من سيطرة الإسلاميين على المجلس.

الإعلام ... حياد في المجمل

أنشأت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس quot;وحدة مراقبةquot; مهمتها متابعة ما تبثه وسائل الإعلام أثناء الحملة الانتخابية، وخلصت الوحدة في تقرير لها نشر الجمعة إلى أنّ سياق التغطية كان محايدا في مجمله غير أن بعض القنوات التلفزيونية الخاصة لم تكن منصفة في الزمن المخصص للبث والحديث عن الفاعلين السياسيين.

عينة الرصد المعتمدة، توزعت على المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة وشملت 9 صحف يومية و9 قنوات تلفزية و13 محطة إذاعية جهوية وخاصة و3 صحف الكترونية، كما تمّ الاهتمام كذلك بما أنتجته القنوات الإخبارية الأجنبية التي تحظى بمتابعة من قبل المشاهد التونسي، وهما قناتا quot;الجزيرةquot; وquot;فرانس 24quot;.

شاب تونسيّ يدلي بصوته في رومانيا

وتبرز نتائج التقرير بالنسبة إلى تغطية الفاعلين السياسيين في القنوات التلفزية أن القناتين الوطنيتين 1 و2 قد انفردتا بتغطية برنامج الحملة الانتخابية مقابل تركيز القنوات الخاصة على البرامج الحوارية السياسية في حين كانت تغطية القنوات الأجنبية محدودة.

وأشار التقرير إلى أن بعض الصحف أبدت انحيازا واضحا لأحزاب سياسية من خلال مضمون تغطية ايجابي لفائدتها يتجاوز نسبة 50 بالمائة.

كما لوحظ حضور الإشهار السياسي والإشهار المقنع في بعض الصحف بالإضافة إلى رصد ضعف حضور الفاعلات السياسيات في الصحافة المكتوبة اليومية.

انتخابات بعيدا عن أيادي quot;الداخليةquot;

ظلت وزارة الداخلية في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، هي الخصم والحكم في آن، وظلت تشرف على معظم العمليات الانتخابيّة رغم أنها وزارة لا تتمتع بالحياد السياسي.

وأشرفت وزارة الداخلية في العهدين السابقين على الانتخابات التي كانت في مجملها مزورة، ابتداء من عملية تسجيل الناخبين، مرورا بالإشراف على الاقتراع، وحتى إعلان النتائج، مع الإشارة إلى أن وزير الداخلية التونسي عادة ما يكون عضوا في الحزب الحاكم ومتهما باقتراف جرائم في حقّ المعارضين السياسيين.

انتخابات اليوم تبدو مختلفة، فرغم الانتقادات التي ما زالت توجّه لوزارة الداخلية وعلى رأسها تهم القمع والتعذيب، فإنّ المؤسسة الأمنية تبدو بعيدة كل البعد عن سير انتخابات المجلس التأسيسي وهو ما طمأن التونسيين أحزابا وشعبا.

فالمؤسسة الأمنية التونسية وكما جاء على لسان المكلف بالإعلام والاتصال بوزارة الداخلية هشام المؤدب: quot;استوعبت الدرس جيدا مما عاشته على امتداد عقود مع حزب التجمع المنحل من سطوة على سير العملية الانتخابيةquot;.

وتقلص دورة وزارة الداخلية وأعوانها بشكل كبير بعد ثورة 14 يناير، ومن المتوقع أن يقتصر هذا الدور يوم الأحد على quot;التواجد بالفضاء خارج مكاتب الاقتراع وعلى تأمين العملية الانتخابية بالسهر على راحة كل من العاملين داخل المكاتب والناخبين وحمايتهم من كل ما من شأنه أن يعكر راحتهم او يعيق اختياراتهمquot;.

وقالت الوزارة إنّ التدخل الأمني بمكاتب الاقتراع لن يكون إلا للضرورة القصوى وبطلب من المشرف على المكتب، عند حدوث ضجيج او تشويش او أعمال شغب فردية او جماعية، مؤكدة أنّ عون الأمن سيكون أيضا محايدا فهو غير معني بتوجيه الأشخاص او تقديم معلومات تتعلق بالأحزاب او المرشحين، كما ان الجيش سيتولى إسناد العمل الأمني في كل ما يتطلبه الوضع الميداني من تدخلات.

وتم تسخير حوالي 20 ألفا من رجال قوات الأمن الداخلي بتوفير ما بين 2 و10 أعوان لكل مركز اقتراع البالغ عددها 4500 مكتبا، وكذلك 22 ألف عسكري، علما ان عملية نقل صناديق الاقتراع وكل متطلبات العملية الانتخابية ستكون من مهام الجيش الوطني، بتخصيص 2500 وسيلة نقل بري و14 وسيلة نقل جوي وقارب بحري.

وتمّ ضبط خطة أمنية متكاملة تم بموجبها تأمين التكوين للعناصر الأمنية عبر الاستعانة بالدول التي لها أسبقية في تنظيم انتخابات ديمقراطية بإشراف هياكل مستقلة، حيث تم التركيز في عملية التكوين على ثلاثة محاور أساسية هي الجوانب الفنية المهنية، والجوانب القانونية، وأخلاقيات المهنة، كما تقول وزارة الداخلية.

كما تم تنفيذ حملات أمنية مكثفة وهادفة، بالتركيز على أماكن محددة ومعروفة بحساسيتها من حيث ارتفاع نسبة الجريمة، خلصت إلى إيقاف آلاف الأشخاص 5500 منهم خلال شهر أكتوبر الجاري.

تنافس حاد

شهد التنافس بين القائمات المرشحة استقطابا حادا بدا للمتابعين على مستويين:

المستوى الأبرز من الاستقطاب كان بين الإسلاميين والعلمانيين، حيث انتشر التهجم والسباب وتخويف كل فريق من الآخر، وشهدت تونس عدة أحداث في هذا السياق، كالجدل المحتدم حول تجسيد الذات الإلهية في فيلم بثته قناة خاصة، علاوة على تهجم التيار السلفي على الليبراليين وتنظيمه مسيرات تعدو إلى quot;تونس إسلاميةquot;.

إسلاميّو تونس ... حظوظ وافرة للفوز

في حين نظم التيار المقابل الذي يصنّف نفسه ضمن الحداثيين مسيرات تحت يافطة (أعتقني) لإدانة العنف والدعوة لاحترام حرية الفكر والتعبير.
أما المستوى الثاني من الاستقطاب والذي بدا خافتا مقارنة بالمستوى الأول، فشمل قوى الثورة والثورة المضادة أو فلول النظام القديم كما يسميهم البعض.

وكانت شبكة الانترنت محملا لهذا الصراع المحتدم، إذ حاول النشطاء خصوصا الشباب قدر الإمكان فضح تاريخ بعض المرشحين ممن كانوا محسوبين على نظام زين العابدين، إلا أنهم وقعوا عدة مرات في التجني على معارضين بارزين لم يكونوا على علاقة بالنظام القديم، الامر الذي أفقد حملاتهم تلك الكثير من المصداقية.

واستعملت مقاطع الفيديو والصوت والصورة والوثائق المكتوبة لفضح quot;التجمعيينquot; والموالين لبن علي، ودعا النشطاء إلى معاقبة هؤلاء بعدم التصويت لهم يوم الاقتراع، في حين استغرب كثيرون أصلا السماح لهم بالترشح والحال أن القانون الانتخابي يمنعهم من ذلك.

تردّد قبل الحسم

أبدى عدد كبير من التونسيين ممن تحدثت معهم (إيلاف) ترددا وتشكيكا سويعات قليلة قبل بدء التصويت. ويرى كثيرون أن الحملة الدعائية أعادت خلط الأوراق وجعلتهم يتراجعون عن قرارات اتخذوها سابقا، في حين أبدى البعض امتعاضه من المسار برمته.

تقول رانيا وهي طالبة جامعية، إنها اعتقدت في البداية أن المرشحين سيقدمون تصورات واضحة بخصوص التشغيل والقضاء على البطالة وضمان الحريات، لكنني فهمت فيما بعد أن المجلس المنتخب سيسنّ دستورا خاصا بالبلاد، وان التنافس بين البرامج الانتخابية في ما يتعلق بالاقتصاد والمجتمع والثقافة والتربية وغيرها...سيكون مؤجلا إلى حين انجاز انتخابات تشريعية ورئاسية مقبلةquot;.

هيثم طالب في معهد الصحافة وعلوم الإخبار، يقول إنّه quot;لم يحسم قراره بعد، لكنه متأكد من عدم تصويته للإسلاميين وأنه ما زال مترددا بين التصويت لحزب التكتّل أو قائمة مستقلةquot;.

يشار إلى أنّ الفتور وغياب مظاهر الفرح والاهتمام، ميّز الحملات الدعائية في تونس طوال الأسبوعين الماضيين، ويفسر مراقبون ذلك بكون المشكلات التي كانت السبب في اندلاع ثورة 14 يناير وحرق محمد البوعزيزي لنفسه، والمتمثلة في البطالة والفقر لا تزال قائمة، بل إنها تفاقمت لان الثورة جعلت عددا كبيرا من السائحين يحجم عن زيارة تونس في حين أغلقت عدة مصانع ومؤسسات تجارية، وارتفعت نسبة العاطلين.