البرلمان المصري

غيّرت الانتخابات المصرية التي بدأت يوم الاثنين النظرة حول مستقبل مصر السياسي، وبرهنت أنها منحت للمصريين صوتاً سياسياً شرعيته تعلو على شرعية المجلس الأعلى للقوات المسلحة وميدان التحرير. الأمر الذي أكده ارتفاع عدد المشاركين في الانتخابات التشريعية.


لندن: توجّه الإنتخابات المصرية التي بدأت يوم الاثنين بمشاركة واسعة رسالة بسيطة مؤدّاها أن مستقبل مصر السياسي القريب لن يُكتب في ميدان التحرير أو بقلم الثوار الذين فقدوا الأسبوع الماضي نحو 40 من رفاقهم في اشتباكات مع قوى الأمن، كما يرى مراقبون. ولكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي أسهم في حمل الرئيس حسني مبارك في شباط/ فبراير على التنحي، هو الآخر لن يتمكن من مواصلة استئثاره بصنع القرار خلال الفترة الانتقالية. فالعملية الانتخابية بصرف النظر عن كل نواقصها تؤمن وجود صوت سياسي، شرعية تمثيله للمصريين تعلو على شرعية المجلس الأعلى للقوات المسلحة وميدان التحرير على السواء. ويمكن لهذا الواقع أن يقلب موازين القوى الطامحة في السلطة خلال الأشهر المقبلة.

وكان متحدث باسم المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد أعلن الأسبوع الماضي أن ميدان التحرير ليس مصر، متجاهلاً مطالب الثوار بتأجيل الانتخابات وتنازل المجلس عن السلطة لحكومة مدنية. وعرض الثوار رئاسة هذه الحكومة على محمد البرادعي المرشح الليبرالي للانتخابات الرئاسية الذي أبدى استعداده لسحب ترشيحه وقبول المهمة.

ولكن ليس لدى ميدان التحرير ما يقدمه سوى المخيلة السياسية الخصبة التي أذكتها معركة المحتجين الشجعان من أجل الصمود والثبات في مواقعهم مع تعمق إحساسهم بشرعيتهم كلما سقط منهم قتيل أو جريح، ودعواهم بأنهم صنعوا مستقبل البلد. فالحقيقة التي لا مفرّ منها هي أن غالبية سكان القاهرة لم يشاركوا في quot;الثورة الثانيةquot; التي دعا اليها معتصمو ميدان التحرير الأسبوع الماضي فيما شاركوا بأعداد غفيرة في انتخابات الاثنين التي رفضها الثوار بوصفها نافلة أو ذات مردود عكسي.

وسعة المشاركة وحدها تطعن في صورة الأسبوع الماضي التي أوحت بأن مستقبل مصر يتقرر في نتيجة المواجهة بين معتصمي ميدان التحرير والمجلس الأعلى للقوات المسلحة اللذين يدعي كل منهما شرعية توليه قيادة المرحلة الانتقالية بعد مبارك. ولكن خيارات أخرى كانت مطروحة. واحتجاجات الأسبوع الماضي بدأت بموازاة تظاهرة اوسع دعت اليها جماعة الاخوان المسلمين ضد مخططات المجلس العسكري لتكريس سلطته على اية حكومة منتخبة جديدة. وقرر حشد أصغر بقيادة جماعات علمانية ليبرالية تتنافس مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة والاخوان المسلمين، البقاء في ميدان التحرير للمطالبة بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتقاة. وكان قرار السلطات طردهم من الميدان بالقوة هو الذي فجر موجة الاشتباكات الأخيرة.

وتعرضت جماعة الاخوان المسلمين إلى انتقادات لاذعة من الجماعات الليبرالية لامتناعها عن تأييد العودة إلى الاعتصام في ميدان التحرير وشكك الكثير من أعضاء الجماعة نفسها في صواب موقف القيادة بامتناعها عن تحدي حملة العنف التي شنها المجلس العسكري تحديا أقوى. واتهمت جماعات ليبرالية جماعة الاخوان بالانتهازية، لإصرارها على إجراء الإنتخابات في موعدها لأنها تتوقع أن يكون حزب الحرية والعدالة، جناحها السياسي، أكبر الفائزين فيها. ولكن جماعة الاخوان كانت تستطيع أن تسوق الشكوى نفسها من مطلب الليبراليين بتأجيل الانتخابات التي من المرجح ان تهمشهم. فإن غالبية الجماعات الليبرالية تفتقر إلى الهوية السياسية الواضحة والقواعد الشعبية الواسعة والقدرات التنظيمية التي راكمتها جماعة الاخوان المسلمين من خلال العمل في المناطق العمالية والفقيرة رغم عقود من الملاحقات.

وتواجه جماعة الاخوان المسلمين نفسها، بطبيعة الحال، تحديات متعددة منها أنها هي نفسها لا تقدم هوية سياسية متلاحمة. وتتفق الجماعة مع الليبراليين في المطالبة بإنهاء حكم المجلس العسكري وتحديد سطوة الجيش في مصر الديمقراطية. ولكن لدى جماعة الاخوان المسلمين فكرة مغايرة عن آلية إرساء قاعدة الشرعية للحكم المدني. فهي تصرّ على أن تكون الحكومة المدنية منبثقة من ارادة الناخبين وليس من ارادة نخبة سياسية، في موقف يستثمر المزاج الشعبي العام. وهي في ذلك لا تختلف عن اي حزب سياسي آخر. وفي موقف مصلحي مماثل يطالب الليبراليون بتسليم السلطة إلى حكومة تنبثق من ارادة ميدان التحرير للإشراف على انتخابات تجري في موعد ما يُحدد لاحقا.

ويبدو أن قيادة الجيش كانت تتهرب من إشراف المدنيين وتريد الاحتفاظ بدور quot;الوصيquot; على المرحلة الانتقالية وحتى على حكومة منتخبة تأتي لاحقا، بحسب مجلة quot;تايمquot;. لكنّها بعد محادثات مع جماعة الاخوان المسلمين واطراف أخرى وافقت على تقديم موعد الانتخابات الرئاسية ومعها إمكانية تسليم السلطة إلى حكومة مدنية في منتصف العام المقبل بعدما كان الموعد السابق عام 2013. وإلى ان يحدث ذلك طلبت من الفرقاء قبول رئيس الوزراء السابق كمال الجنزوري رئيسا للحكومة، وهو خيار رفضه المتظاهرون بشدة.

ولن يكون البرلمان الذي بدأ انتخابه يوم الاثنين هيئة حاكمة بل يراه المجلس الأعلى للقوات المسلحة جمعية تأسيسيّة مهمتها ببساطة كتابة دستور جديد، بتوجيه من الجيش وبهامش واسع يتيح تدخله في العملية، كما تلاحظ مجلة quot;تايمquot;. ولكن الاخوان المسلمين أعلنوا مؤخراً أن البرلمان المنتخب يمكن أن يصبح ركيزة حملة جديدة للحد من سلطة العسكر. ورغم اتفاق الجيش والاخوان المسلمين على رفض مطلب معتصمي ميدان التحرير بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية غير منتخبة فهما لا يشتركان في أجندة واحدة. وكان التحوط لانتصار الاسلاميين في الانتخابات هو الذي دفع العسكر ، بدعم من الليبراليين، إلى إعداد وثيقة quot;المبادئ فوق الدستوريةquot; التي تنص عمليا على تمتعه بحق الفيتو متسببا في تفجير احتجاجات الأسبوع الماضي.

وتريد جماعة الاخوان المسلمين نقل السلطة إلى حكومة منتخبة. وقد تبدي على هذه الجبهة صبراً أكبر مما أبداه بعض منافسيها الليبراليين. فإن عقوداً من الخبرة في ظل حكم العسكر علَّم الإسلاميين ان يتقنوا لعبة النفس الطويل والتحلّي بحذر اصبح غريزيا عندهم، على حد وصف مجلة quot;تايمquot;.

وستؤدي الانتخابات التي بدأت يوم الاثنين مرة أخرى إلى افول نجم الثوار لا بسبب انطلاقها بمشاركة واسعة فحسب، بل لأنها تضفي شرعية لا تقبل اللبس على المجلس النيابي الذي يتمخض عنها. فالعسكر يستطيعون ببساطة ان يرفضوا مطالب quot;جمع من مرددي الهتافاتquot; ولكن برلماناً منتخباً بطريقة ديمقراطية يستطيع أن يتصدى بفعالية أجدى لدعوى الجيش بأحقيته في الاحتفاظ بالسلطة.

كما أن الحذر الذي دفع الإخوان المسلمين إلى البقاء بعيداً عن احتجاجات الأسبوع الماضي ربما كان في أحد جوانبه يعكس ادراكا لحقيقة ان غالبية المصريين لم يبدوا متحمسين لموسم جديد من الاضطرابات. وبالتالي فإن جماعة الاخوان المسلمين قد تكون خسرت في ميدان التحرير نتيجة موقفها من احتجاجات الأسبوع الماضي ولكنها اكثر من عوضت عن خسارتها بتأييد مئات آلاف المصريين الذين وقفوا في طوابير طويلة للادلاء بأصواتهم. ويبدو أن الاسلاميين يدركون أن الحركة السياسية القادرة على تعبئة أوسع تأييد شعبي وتنظيمه هي التي ستكون لها الكلمة الحاسمة في الحياة السياسية المصرية بعد مبارك. وهذا درس قد يتعلمه العديد من المرابطين في ميدان التحرير بثمن دفعوه من رصيدهم الشعبي.