رغم أن اغلب العراقيين لا يفضلون نشر مظاهر الإباحية أو بيع الخمور في العلن وعرضها أمام الجمهور ، لكنهم في الوقت ذاته يرفضون سياسات الإكراه والتعصب والتهديد بالقتل او تفجير الأماكن التي تتعاطى مع مظاهر الانفتاح.


محل لبيع المشروبات الكحولية في العراق وقد تعرّض للحرق

بغداد: مع اتخاذ اغلب الحكومات المحلية في مدن العراق قرارات غلق المشروبات الروحية وحظر تداولها ، تزدهر ظاهرة التجارة السرية للكحوليات، مترافقة مع عودة صناعة الخمور او تخزينها في البيوت العراقية.

والى وقت قريب كان اقليم كردستان الشمالي بمنأى عن ظاهرة الإشكالية الاجتماعية والدينية في ظاهرة بيع الخمور واعتبارها سلعة محرمة من قبل جهات دينية متشددة، الا ان الأمر كان مثل quot;الجمر تحت الرمادquot; فقد أضرم مواطنون الجمعة الفائت، النار في مقرين للإتحاد الإسلامي الكردستاني في قضاءي زاخو وسميل على خلية إحراق محلات الخمور في المدينتين، لينتقل جدل التحليل والتحريم من مدن العراق المختلفة الى كردستان.

مخالفة للشرع الإسلامي

وفي اغلب مدن العراق من ضمنها كردستان فان هناك جماعات متشددة تنظر الى الخمور وتناولها على أنها ممارسة مخالفة للشرع الإسلامي، ويستحق ممارسوها العقاب الذي يصل الى حد التصفية في بعض الأحيان.

ويرى مراد قنديل وهو من أصحاب متاجر المشروبات الروحية في بابل (100 كم جنوب بغداد) وهو من الطائفة الأيزيدية التي سكنت المنطقة منذ نحو أربعة عقود، ان قرارات حظر تداول المشروبات الكحولية لن يجد له صدى على ارض الواقع، لان هناك من يرفض الانصياع للأمر في الامتناع عن تناول الكحول، إضافة إلى انها أصبحت تجارة وصناعة رابحة للكثيرين، وبسبب قرارات المنع تحول قنديل الى بيع السكائر والتبغ.

ويتابع: الحظر زاد من نشاط تجار سريين يمكنهم استيراد الكحول من مصادره عبر التهريب عبر الحدود وبيعه بأسعار خيالية إلى المستهلك. ويرى قنديل ان السلطات بمنعها تجارة الكحول، ساهمت في التشجيع على صناعته في البيوت.

انتعاش صناعة الخمور

رغم الطبيعة العامة المحافظة للمجتمع العراقي الا انه يعد من الشعوب التي تستخدم الكحوليات بكثرة. وكانت بغداد وبعض مدن العراق مقصدا للزائرين من الدول المجاورة لاسيما الخليج الذين يجدون وسائل الراحة ومنها النوادي الليلية والحانات التي تفتقدها الكثير من الدول المجاورة.

لكن الباحث الاجتماعي كريم حسن يرى أن صناعة الخمور تنتعش اليوم بشكل غير مسبوق بسبب محاصرة تداولها في العلن.

الحملة الإيمانية

كان نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين بدأ ما سُمّي وقتها بquot; الحملة الإيمانيةquot; في التسعينات، أغلق بموجبها النوادي الليلية والبيع العلني للخمور في أسواق بغداد. ومنذ ذلك الحين أصبح تداول الكحوليات بصورة شبه سرية رغم ان هناك بعض المحلات التي تنتشر اليوم في بغداد ومدن العراق لكنّ أعدادها قليلة جدا قياسا إلى زخم انتشارها في السبعينات والستينات.

لكن ما يميز الماضي عن الحاضر، ان أحدا لم يكن يجرؤ على التعدي على محال بيع الخمور، اما اليوم فان صاحب المتجر يتوقف في كل لحظة ان يأتي شخص وينسف محله بعبوة او قنبلة.

وبحسب محافظ بغداد صلاح عبد الرزاق فان نحو مائة محل مجاز لبيع الخمور في بغداد في عام 2011، إضافة إلى عدد غير محدد من محال غير مرخصة لبيع الخمور.

التهديد مستمر

يقول سليم كريم صاحب دكان لبيع الخمور في ساحة الواثق في بغداد، ان نسف محله مسألة وقت، وهو يتوقع ان يحدث ذلك في كل وقت من قبل جهات تعتبر بيع الخمور كفرا وإخلالا بالقيم الدينية والأخلاقية.

وبحسب قنديل الذي ظل لفترة عقد من الزمن يستورد المشروبات الروحية من الدول المجاورة الى العراق فان البلد كان من اكبر أسواق الشرق الأوسط استهلاكا للمسكرات والكحوليات في الخمسينات والستينات.

ومنذ عام 2003 تواجه تجارة المشروبات الروحية رفضا كبيرا، ففي عام 2003 شهدت البصرة إلقاء قنابل من قبل مجهولين داخل صالة ألعاب تقدم مشروبات كحولية.

ويقول ليث شمران من بابل انه منع منذ عام 2004 من تقديم المشروبات الروحية في صالة بليارد يمتلكها بعدما ظل طيلة ستة اشهر ابتداء من عام 2003 ، يمارس هذه التجارة.

وليث الذي يبدي ندمه لانه مارس هذه التجارة ( السيئة) والمخالفة للشريعة، إلا انه يعترف ان هناك تجارة سرية نشطة لتداول الكحول.

وفي مدينة المحمودية (15 كلم جنوب بغداد)احرق متجر لؤي غسان وهو مسيحي عام 2006، ومتجره هو واحد من المتاجر قليلة العدد، لم يبق منها واحد اليوم.

يقول غسان: تحولت اليوم إلى العمل في صالة كومبيوتر والعاب، وسأعاود ممارسة مهنتي السابقة إذا ما توفر الأمن.

أحزاب دينية تفرض غرامات بالدولار

كانت مدينة البصرة التي يسيطر على إدارة شؤونها أحزاب دينية قد فرضت غرامات تصل الى نحو خمسة آلاف دولار أميركي لمن يصنع او يبيع او يشرب الكحول في مكان عام أو يستورده الى المحافظة.

ويقول غسان: رغم أن القرار استثنى المسيحيين، فإنهم لا يجازفون بممارسة مهنة تجر عليهم المتاعب. ويطالب بتراخيص واضحة وثابتة لمن يريد مزاولة هذه المهنة.

وبينما كانت هيئة السياحة في العراق تتساهل في منح تراخيص للفنادق والأماكن التي تقدم المشروبات الكحولية الا انها بدأت تتريث كثيرا في ذلك بل وتفرض الغرامة او التهديد بالإغلاق للفنادق او المتاجر التي تتعاطى هذه المشروبات.

سياسات الإكراه والتعصب

رغم ان اغلب العراقيين لا يفضلون نشر مظاهر الإباحية أو بيع الخمور في العلن وعرضها أمام الجمهور ، لكنهم في الوقت ذاته يرفضون سياسات الإكراه والتعصب والتهديد بالقتل او تفجر الأماكن التي تتعاطى مع هذه الفعاليات.

ويقول الباحث الاجتماعي خالد الأسدي ، ان الفترات التي شهدت السماح للأندية الاجتماعية بتعاطي الخمور، لم تؤد الىنشر الإفساد في المجتمع بل كانت النوادي في الغالب مهمشة ويرتادها من هم يرغبون في تناول الكحول.

ويتابع: الامر لم يتغير، فهؤلاء أنفسهم ظلوا يتناولون الخمور لكن بصورة شبه سرية بل وتحول الامر برمته الى تجارة سوداء لها تأثير سلبي على الاقتصاد العراقي.

ونعمت اغلب مدن العراق في فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي بنوادٍ وكازينوات، يقضي فيها الناس اوقات فراغهم، و بعضها يقدم المشروبات الروحية لكن بطريقة منظمة وميسرة لا تؤثر في المظهر المحافظ العام الذي يميز المجتمع العراقي.

وفي المناطق التي يسكن فيها مسيحيون مثل تلكيف، فان صناعة وبيع الكحول أصبحت عملية خطرة وعزف اغلب الناس عن القيام بها.

وتنتشر في اغلب مدن العراق اليوم، جماعات متشددة تعتبر الخمور سلعة محرّمة وتجبر أصحاب المتاجر على غلقها. لكن التناقص الكبير الذي طرأ بعد عام 2003 ان بعض افراد المجاميع المسلحة هم انفسهم ممن يتعاطى المخدرات.

أسلمة المجتمع بالقوة

ويقول صبيح النجفي، انه كان عضوا في جماعة مسلحة عام 2007 وكان بعض افراد هذه المجموعة يتناول المخدرات والكحول في الخفاء.

ويضيف: اغلب ما يحدث ليس نابعا من عقيدة دينية او مبدأ بل فعاليات سياسية تقف وراءها أجندة معينة.

ويرفض النجفي فرض أسلمة المجتمع بالقوة، ويقول إن أغلب العراقيين مسلمون معتدلون ويرفضون اتخاذ الدين وسيلة لفرض مظهر عيش محدد وبالقوة.

ويسرد كامل حسن ان بإمكانك الحصول على ما ترغب من أنواع الكحول عبر وسطاء موثوقين، ويضيف: هذا دليل على ان فرض أسلوب حياة معين بالقوة لا يجدي نفعا.

ويرفض اغلب العراقيين تحول بلادهم الى quot;أفغانستان أخرىquot; تحكمها عصابات quot; طالبانية quot; على حد وصفهم.

ويقول حليم غسان: بعدما كانت الخمور تباع كسلعة نظيفة وصحية صارت تعبأ في علب بلاستيكية ، وتنقل بحذر الى مستهلكيها، حيث تشوبها عمليات الغش عبر خلط الخمر بالماء والحبوب المخدرة.

وفي اغلب مدن العراق ارتبطت تجارة الخمور بالأقليات المسيحية والايزيدية ما عرّض افرادها الى التصفية والقتل والتهديد من قبل الجماعات المتطرفة.

رغم كل التهديدات، فان هناك بعض أفراد الأقليات ممن يرغب في الاستمرار في مزاولة المهنة، حيث إنهم يحملون تراخيص منذ عقود وكل ما يطلبونه هو حمايتهم او السماح لهم بحماية انفسهم.

تقليص أجندة المتشددين

يعتقد رحيم الكلابي الباحث الاجتماعي في جامعة بابل ان الانفتاح العراقي على العالم وتزايد استثمار الشركات، لاسيما الغربية منها، يتحتم على الحكومات المحلية تقليص أجندة المتشددين الذين غالبا ما يكونون هم أصحاب القرار فيها منذ عام 2003 .

ويقول الكلابي: السياحة في العراق تتطلب تنظيم أماكن المتعة وتناول الخمور لتصبح العملية محصورة لكنها في متناول من يرغب فيها بدلا من ملاحقته وتهديده بالقتل والضرب.

ويضيف: رغم ان المظاهر المسلحة للتهديد انحسرت الى حد ما، لكن الأجندة الفكرية المتشددة مازالت موجودة وتشجع بعض المتطرفين على الاعتداء على هذه الأماكن.

اجتذاب رؤوس الأموال

ويقول المستثمر العراقي أديب الصالحي ان اجتذاب رؤوس الأموال لن يكون الا بانفتاح اجتماعي قبل الاقتصادي.

ويتابع: هذه ليست دعوة للفساد، لكنها دعوة لتفهم حاجات الآخرين ورغباتهم

ويرى الصالحي ان المجتمع المحافظ الخليجي استطاع استيعاب الانفتاح عبر تسخيره في خدمة المجتمع من دون ان يؤثر ذلكفي المظهر الإسلامي للحياة في تلك البلدان.