لم يكن ميدان التحرير بالعاصمة المصريّة مجرد ساحة احتشد الملايين من المواطنين فيها مطالبين برحيل الرئيس مبارك، بل كان نموذجاً مصغراً لمصر أخرى لم يعرفها أحد من قبل. فالميدان تحوّل إلى خلية نحل الثورة المصرية، تلتقي على أرضه جميع أطياف الشعب التي تنادي بالحرية.


لمتابعة أخبار ثورة مصر: أنقر على الصورة

القاهرة: لم تقل أعداد المحتجين في ميدان التحرير، أكبر ساحات القاهرة، طوال فترة الثورة التي بدأت في 25 يناير الماضي عن 50 ألف مواطن، ووصل العدد في بعض الأحيان إلي نحو المليون ونصف المليون شخص، ينتمون إلي كافة طبقات الشعب المصري، حيث كان يضم أطباء ومهندسين ومحاسبين وموطفين وعمال باليومية وضباط متقاعدين.

كانت الحياة في الميدان تسير بشكل طبيعي، وكأنه خلية نحل، حيث كان بعض الشباب يتولون عملية توفير الطعام البسيط للمحتجين، من خلال جمع جنيه أو أقل أو أكثر من المتظاهرين، ويشترون الأطعمة مثل سندويتشات الفول والطعمية والجبنة الرومي وعلب الكشري، يوزعونها على المتواجدين، هؤلاء الشباب لم ينطمهم أي شخص أو جهة، بل كان تنظيمهم عفوياً، من أجل استمرار ثورتهم النبيلة.

ويقول يوسف فريد أحد الشباب القائمين بمهمة جلب الأطعمة للمحتجين لـquot;إيلافquot;: الأمر جاء عفوياً بعد شعرنا أن بعض الشباب لديه أصرار على عدم مغادرة الميدان، فكان زملاؤنا الذين يعودون إلي منازلهم ليلاً يحضرون بعض الأطعمة في الصباح، ولكن شعرنا أن ذلك سوف يمثل ضغوطاً متزايدة على ميزانيتهم، لاسيما أن الأوضاع المعيشية متردية لدي غالبية المصريين، وفكرنا في أن نجمع أموالاً من بعضنا البعض من أجل شراء الطعام، وكل واحد حسب قدرته المادية، فالبعض كان يدفع عشرة جنيهات، وهناك من يدفع جنيه، أو نصف الجنيه، وهناك من لا يمتلك أموالاً، ونتوجه إلي مطاعم الفول والطعمية والكشري لشراء السندويتشات، ونوزعها على المتظاهرين، بمعدل سندوتيش واحد لكل فرد، إنها تجربة رائعة، أثبتت أصالة الشعب المصري، وأنه لافرق بين غني وفقير، الجميع إتحد حول هدف واحد هو اسقاط النظام الفاسد المستبد الذي لطالما تعامل مع الجميع بصلف وعنف.

وهذا ينفي من يقولون أننا كنا نتلقي أموالا و طعاماً من جهات خارجية تهدف إلي زعزعة استقرار مصر، أو أن رجال أعمال ينتمون لجماعة الإخوان كانت تمول المظاهرات، وتتكفل بنفقاتنا نحن وأسرنا طوال فترة الثورة.

لم يكن الأمر لم يتوقف عند حد اللجان أو المجموعات التي تقوم على توفير الطعام، بل كانت هناك مجموعات أخري تتولي مهمة سقاية المحتجين، فقد كان هؤلاء الشباب يجمعون زجاجات المياه المعدنية الفارغة من المحال التجارية الموجودة في منطقة وسط القاهرة، ويغسلونها جيداً، ثم يستخدمونها في أعمال السقاية.

الشاب نور سعيد معيد بجامعة القاهرة أحد مجموعات السقاية، يقول لـquot;إيلافquot;: كانت أعداد المشاركين في المظاهرات كبيرة جداً، والبعض كان يتواجد في أرض الميدان لساعات طويلة وسط الزحام وهو يهتف ضد النظام الحاكم، وبالتأكيد كانوا يشعرون بالعطش، وسارعت إحدي الفتيات بإحضار مجموعة من زجاجات المياه من منزلها، ولما فرغت توجهت إلي أقرب محل تجاري لتعبئتها، تولدت فكرة تكوين مجموعات لإحضار المياه إلي الشباب، وساعدنا في ذلك أصحاب المنازل المجاورة، وبعض المطاعم التي كانت تمنحنا زجاجات المياه الفارغة، وتسمح لنا بتعبئتها من محلاتهم.

وأضاف: لقد تعبنا جداً، وضحينا بأوقاتنا وعشنا ومازلنا نعيش أياماً صعبة من أجل تحقيق حلم الحرية، ونحن مصرون على الوصول إليه مهما كلفتنا من تضحيات غالية.
كان مشهدهم وهم يقومون بأعمال النظافة بعد يوم الغضب في الخامس والعشرين من يناير الماضي رائعاً، بعد أن أطلقت فيها الشرطة النار والقنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين.

إنهم مجموعات الشباب الذين تولد عنهم مجموعات أصغر تتولي مهمة تنظيف الميدان وجمع القمامة، ووضعها في مكان ظاهر، حتى تتمكن سيارات شركات النظافة من حملها إلي مجمعات تدوير القمامة.

ويقول وليد عبد الرحيم عامل نظافة في بنك لـquot;إيلافquot;: كان ميدان التحرير يضم الكثير من القمامة وغارقا في المياه، بعد فض قوات الأمن المظاهرات بالقوة مستخدمة الرصاص الحي والمطاطي و القنابل المسيلة للدموع ومضخات المياه، وكان لابد من تدبر الأمر، وإعادة تنظيفه، تمهيداً لتنظيم مظاهرات أخري، حتى أسقاط النظام الظالم، وبدأنا في العمل، وتعهدنا أن يظل نظيفاً حتي النهاية، ومن ثم تولي مجموعة منا شراء أكياس القمامة السوداء ومقشات، ونجحنا في مهمتنا، حيث لم تكن هناك ورقة صغيرة ملقاها على الأرض، وكانت النظافة علي أعلى مستوي، وهذا هو المستوي الذي يليق بالمتظاهرين المتحضرين، الذين خرجوا للتعبير عن رأيهم في النظام الحاكم والأوضاع المأساوية السائدة منذ 30 عاماً.

مركز الإسعاف كان أكثر الخدمات أهمية في الميدان، حيث استطاع بعض الأطباء والممرضين والممرضات، إنشائه في شارع مجاور، وذلك في أعقاب اعتداء الشرطة على المتظاهرين السلميين، ويقول الدكتور منير جاد الله، أحد الأطباء بالمركز لـquot;إيلافquot; إن بعض المتظاهرين تعرض لإصابات من جراء إعتداءات الشرطة الوحشية عليهم، وكان لابد أن يكون هناك اسعافات، ولذلك قمنا بالتجمع مع بعضنا نحن حوالي سبعة عشر طبيباً و تسع ممرضات وممرضين، استطعنا تقديم الإسعافات لكثير من المصابين، خاصة من تعرضوا لإعتداءات من قبل البلطجية الذين استأجرهم الحزب الوطني لإرهاب الشباب المتحضر الذي لا يجيد أستخدام السنج والسيوف أو ركوب الجمال والأحصنة.

أما الأهم في ميدان التحرير فكان مركز تجميع الصور والفيديوهات الخاصة بالثورة، حيث أقام المصور طارق حفني خيمة صغيرة في وسط الميدان، لاستقبال الصور والفيديوهات التي التقطها المواطنون لثورتهم في مختلف أنحاء الجمهورية.

ويقول حفني لـquot;إيلافquot;: الفكرة طرأت إلي ذهني بعد قطع خدمة الإنترنت وإغلاق قناة الجزيرة وعدم القدرة على توصيل صوت الجماهير الغاضبة إلي العالم من حولنا، لاسيما أن التلفيزيون الرسمي كان يمارس تعتيماً شديداً علي ثورتنا المجيدة.

وتوصلت أنا وصديق لي إلى ضرورة أن نوثق الأحداث والفظائع التي ارتكبتها قوات الأمن والنظام الحاكم ضد المتظاهرين السلميين، مع توثيق مختلف صور وأشكال التضامن التي ظهرت أثناء الثورة، وقد حصلنا على ما يقرب من 10 آلاف صورة، ونحو 7 آلاف فيديو من شتي أنحاء الجمهورية، وسوف نقوم برفعها على شبكة الإنترنت قريباً.

إذن، لم يكن ميدان التحرير إلا قطعة من أرض مصر الطيبة، تجلت فيها مظاهر انسانية رائعة غابت عنها لسنوات، أو قد تكون اختفت بسبب غياب هدف قومي يتوحد المصريون من خلفه، ويبدو أن الهدف القومي صار الخلاص من الإستبداد والقهر.