بلوغ ميدان التحرير مهمة مستحيلة، بعد أن أصبحت جميع مداخله محاصرة من قبل المجموعة نفسها التي هاجمت الميدان أول من أمس، ولم يبق سوى مدخل واحد فقط ممكن اجتيازه بأمان. quot;إيلافquot; زارت ميدان التحرير والتقت عددا من المحتجين الذين أكدوا أن لا قائد لـ quot;ثورتهمquot; وانهم مستمرون بها.


أصبح بلوغ ميدان التحرير مغامرة غير مأمونة العواقب، إذ إن من هاجم الميدان ما زال يحاصر مداخله في وسط العاصمة المصرية القاهرة، وهم مسلحون بالأسلحة البيضاء، وقنابل المولوتوف، والأسلحة النارية أيضاً، ويقطعون الطريق على قاصدي الميدان من الناحية الشمالية، حيث شوارع التحرير، الجامعة الأميركية، قصر العيني، طلعت حرب، محمد محمود، نجيب الريحاني. ولم يبق سوى مدخل واحد فقط يتمتع ببعض الأمان، إنه المدخل الجنوبي، حيث كوبري قصر النيل، ودار الأوبرا.

وغالباً ما يسلك من يقصد الوصل إلى الميدان المداخل الشمالية، نظراً لقربها من محطة مترو محمد نجيب، لاسيما بعد إغلاق محطة السادات الواقعة أسفل الميدان. لكن quot;إيلافquot; استطاعت الوصول بأمان إلى قلب الميدان الذي يعتبره الشباب المعتصم هناك quot;أول منطقة مصرية محررة من الإستبدادquot;.

يفحص من يسمون بـ quot;البلطجيةquot; على مشارف الميدان ـ وتبدو على وجوههم أنهم في حالة شبه تغييب عن الوعي، لأنهم تعاطوا أنواعاً مختلفة من الأدوية المخدرةـ كل من يقصد الميدان، ويخضعونه لتفتيش ذاتي، ويصادرون متعلقاته، سواء الأطعمة أو الأدوية أو زجاجات المياه، لاسيما إذا كان القادم إلى الميدان بمفرده، وليس ضمن جماعة توفر له الحماية، وقد فطن الغالبية لهذا الفخ فصار من يجد نفسه على مقربة منهم ينتظر حتى يجد مجموعة يحتمي بها.

لكن ما إن تجتاز تلك الحواجز البشرية، وتصل إلى الميدان أو quot;أول منطقة محررة من الاستبداد والطغيان في مصرquot;، كما يطلق عليها في الداخل، حتى تجد عالماً آخر، يتسم بالتضحية والرغبة في الموت من أجل quot;تحرير مصرquot; مما يعتقد أنه quot;ظلم واستبداد وطغيانquot;، كما يقولون.

الجميع هناك في حالة تراحم وحب وود وإيثار. عندما كنت أتحدث إلى أحدهم، وكان منهكاً وتبدو بقع الدماء على ملابسه، التي قرر ألا يغسلها أو يفرط فيها، لـ quot;أنها ترمز إلى التضحية من أجل الحريةquot;، قال: quot;لم أنم منذ 24 ساعة، كنا في مواجهات شديدة مع بلطجية النظام الذين استأجرهم من أجل القضاء علينا وطردنا من ميدان التحرير، تعرضت للقذف بالطوب والزجاجات الحارقة وإطلاق الرصاص الحيquot;ـ وهنا تغلبه دموعه، ثم يواصل قائلاً: quot;قتل أحد رفاقي، حملته بين ذراعي إلى المركز الطبي في الميدان، وقال لنا جملة واحدة قبل أن يفارقنا quot;لا تتركوا ثأريquot;، وقد عاهدناه جميعاً ألا نترك دماً يذهب هدراً، سنأخذ بثأره، وثأره أن نسقط النظام الحاكم، ويحاكم مبارك، ولن نرضى بغير ذلك بديلاً، لن نرحل حتى يتم اسقاطه ومحاكمته، كنا في السابق نطالب برحيله، لكن الآن وبعد سقوط مئات القتلى، لابد أن يحاكم ويعدم، وليس أقل من ذلكquot;. حسبما قال.

كان مشهداً بشعاً، عندما اقتحم العشرات من المسجلين جنائياً لدى وزارة الداخلية ميدان التحرير، وعاثوا فيه ضرباً بالرصاص والأسلحة البيضاء والزجاجات الحارقة، مشهداً أدانه العالم أجمع الذي كان يجلس أمام شاشات التلفزيون، فما بالك بمن كانوا في وسط هذه النيران.

ويصف عماد، وهو أحد شباب ميدان التحرير، ما حدث قائلاً: quot;كنا نظن أن الرئيس مبارك قد وعي الدرس، وأنه سوف يبدأ صفحة جديدة معنا إلى أن يرحل بعد انقضاء مدة رئاسته في شهر سبتمر المقبل، ولا أخفيك سراً إنني شخصياً كنت أنوي ترك ميدان التحرير، لاسيما بعد أن بدا الرجل وكأنه يستعطف شعبه أن يتركه حتى يرحل بكرامة، ولكن يبدو أن الطبع يغلب التطبع، إذ فؤجئنا، بأن عددا من المجرمين وأفراد الشرطة يقتحمون ميدان التحرير مستخدمين الجمال والخيل وعربات الكارو ويطلقون علينا النيران، ويقذفوننا بالزجاجات الحارقة من فوق المباني المحيطة بالميدان ويضربوننا بالأسلحة البيضاء والعصي، ويحاصروننا من كل جانب، وسقط مئات الجرحى في صفوفنا، ما يقرب من ألف جريح و سبعة قتلى أغلبهم توفي نتيجة طلقات رصاص في الرأس أو القلب مباشرة، والبعض تعرض للتشويه بالزجاجات الحارقة، وتعرض كثيرون إلى بتر في الأطراف أو كسور أو جروح غائرةquot;.

quot;ما عسانا نفعلquot;؟ تساءل عماد، ثم أجاب: quot;هل نترك الميدان، ونرحل عنه؟ هل نسير إلى القصر الجمهوري ونعتذر إلى الرئيس، لأننا تجرأنا وطالبنا بحقنا في الحرية؟ لا، لن نفعل ذلك، بل سوف ننزله من على كرسي الحكم، ونحاكمه ونعدمه في ميدان التحرير، كما أعدم المئات منا هنا تحت عجلات سيارات ومصفحات الأمن المركزي أو برصاص الشرطة أو برصاص المجرمين. إنه نظام إجرامي، نحن لا نثق به، لدينا يقين أننا إذا رحلنا عن ميدان التحرير قبل إسقاط نظام حكمه ومحاكمته، فسوف يعتقلنا ويعدمنا في سجونه ومعتقلاته، لذلك قررنا أن نموت بكرامة هناquot;.

الجميع يظن أن لهذا الميدان كبيرًا يُسيّر أموره ويقود الاحتجاجات، والأمر ليس كذلك كل هذه الآلاف من المصريين ليس لهم سوى هدف واحد، هو إسقاط النظام، الناس تتوافد إلى هنا من أجل الحريةـ هكذا تحدث ماهر، الذي تعرض لإصابة في الرأس والساق، كان يرقد تحت خيمة صغيرة تحمي رأسه فقط من أشعة الشمس ـ وأضاف: يقولون إنهم سوف يتفاوضون مع قادتنا، ولكن ما لايعلمونه أنه ليس لنا قادة، الحرية هي القائد الوحيد لنا، إذا أرادوا أن نرحل و تخمد الثورة، فليمنحوها لنا، لنعود بها إلى بيوتنا، وللأسف الشديد الحرية لا يمنحها المستبد، بل يتنزعها الثائر.

وفي ميدان التحرير بعد أن فقد شاب عينه أثناء الهجمات قال: quot;إذا كنت قد فقدت عيني، فقد ضحى أكثر من 350 مصرياً بحياتهم، ماتوا إما بإطلاق الرصاص أو الدهس تحت عجلات سيارات الشرطة التي اشتراها مبارك بأموالنا، إن تضحيتي لرخيصة جداً بجوار تضحياتهمquot;.

وأضاف: quot;كنت أقف بالقرب من المتحف المصري عندما فوجئت بمئات من البلطجية والمجرمين وضباط وأفراد الشرطة يقتحمون الميدان، وتعرضت للضرب بعصي على ظهري، وسقطت على الأرض، لكني استطعت النهوض والإشتراك مع زملائي في المقاومة، فؤجئت بأن عيني تنزف بشدة، فصرخت وحملوني إلى مركز الإسعاف في الميدان، وهناك اكتشفت أن فقدت عيني ورفضت العودة إلى المنزل، لأني اتخذت عهداً على نفسي بعدم العودة إلا بعد الثأر من الطاغية ونظامهquot;.

لا أصدق أني ما زلت على قيد الحياة حتى الآن، هكذا قال إبراهيم وهو يعمل مهندساً، وتابع: quot;كنا نتعرض للضرب بالرصاص وقنابل المولوتوف من جانب البلطجية، ولم نكن مستعدين لتلك المواجهة غير المتكافئة، خاصة أننا أعلنا أن ثورتنا سلمية، ولم يكن أمامنا سوى تكسير بلاط الأرصفة وتحويله إلى حجارة صغيرة وقذفهم بها، وكان موقف الجيش سلبياً، حيث لم يمنع هؤلاء عنا، وقد إحتميت بإحدى الدبابات، وكان أحد الجنود يبكي بشدة متأثراً مما نتعرض له، وفجأة وجدناه يصوب بندقيته نحو رأسه، وكان ينوي الإنتحار، لأنه عاجز عن إنقاذنا، لكننا هدأناه، وطلبنا منه أن يصوبها إلى المهاجمين، فأطلق عدة أعيرة نارية في الهواء، وكذلك فعل العديد من الجنود، ما أدى إلى إبعاد الكثير من المهاجمين عن أرض الميدانquot;.

وواصل سرد وقائع ما تعرض شباب ميدان التحرير: الغريب أن نواب مجلس الشعب الذين يقال إنهم منتخبون من المواطنين، هم من دبروا تلك الجريمة ومولوها، فالكثير من البلطجية والمجرمين ممن قبضنا علينا اعترف بأنهم حصلوا على 400 جنيه، وأدوية الترامادول المخدرة التي تفقد من يتعاطيها الإحساس بما يجري حوله وتحوله إلى وحش بشري.

وكان من بين من قبضنا عليهم ضابط برتبة رائد في جهاز أمن الدولة، واعترف لنا بتفاصيل الخطة التي وضعها قيادي في الحزب الوطني و يشغل منصباً مهماً في مجلس الشعب، ورغم أن ضباط أمن الدولة عذبوا وقتلوا الآلاف من المصريين طوال ثلاثين عاماً من حكم مبارك، إلا أننا لم نعامله بالمثل، كان بإمكاننا أن نعذبه ونقتله، لكننا لم نفعل ذلك، لأننا نطلب الحرية بكرامة وعزة، وسلمناه للجيش، ونحن على يقين أنه لن يحاسب، لأن النظام الإستبدادي ما زال قائماً، لذلك لن نرحل قبل أن نسقط هذا النظام، ويتم محاكمة رموزه من الفاسدينquot;.

* الصور خاصة بـ quot;إيلافquot;