حول البعض عمليات التبرع بالدم إلى تجارة مربحة

يضطر شباب عراقيون عاطلون عن العمل لبيع دمهم من أجل تأمين قوت يومهم، فيماينتشر quot;سماسرة الدماءquot; في محيط المستشفياتبحثا عن مرضى بحاجة إلى دماء ومساومتهم على الأسعار التي يحصل المتبرع علىجزءمنها ويبقى نصيب الأسد للسماسرة.


تفشت تجارة الدم في العراق بصورة كبيرة بعد العام 2003 وتزايدت ذروتها في الأعوام التي تلته لكنها بدأت بالانحسار خلال العامين الاخيرين، وتحولت إلى ما يمكن وصفه بـquot;تجارة المحتاج الى بيع دمهquot; بشكل إضطراري بعدما سدت أبواب الرزق أمامه معرضا حياته للخطر مقابل لقمة العيش.

وكانت تجارة بيع الدم نادرة جدا في المجتمع العراقي طيلة فترة العهود المنصرمة، حين كان المتبرع بالدم لأغراض إنسانية يحصل على مكافأة أهل المريض المادية من دون ان يكون وراء العملية برمتها دوافع ربحية أو تجارية،لكنها وجدت ملاذا، منذ منتصف الثمانينات حين اشتدت أوزار الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت في 1980 حتى عام 1988، وخلفت نحو مليون قتيل.

ولهذه التجارة سماسرة يمدون أذرعهم الأخطبوطية في المستشفيات، وبالتعاون مع كوادر طبية خلال سنوات غياب القانون والفوضى الامنية، لكن تزايد القبضة الأمنية والرقابة الطبية قلل من الظاهرة، مع تهافت نفوذ سماسرة (الذهب الاحمر).

شهادة حية
ويبيع الشاب (حسام . م) quot;17 عاماquot; دمه عدة مرات مقابل مبالغ مالية بعدما أغلقت أبواب العمل في وجهه وبعد ان طرد من سلك الشرطة الذي تطوع فيه قبل سنتين لأسباب وصفها بالكيدية.

ويقول حسام إنه تبرع بدمه في مستشفى مدينة الحلة (مركز محافظة بابل تقع على بعد 100 كم جنوب بغداد) ست مرات خلال عامي 2009 و 2010 ثم توقف عن بيع دمه بعدما وجد فرصة عمل له في البناء. وفي كل مرة يتبرع فيها بالدم، يحصل حسام على مبلغ أربعين دولارا.

ويجزم حسام بأن الظاهرة ما زالت موجودة الى الآن لكن ممارسيها يحذرون الرقابة والسلطات ويمارسون عملهم بطريقة اكثر سرية. ويشير حسام إلى مجموعة من المتبرعين الذين يقفون على أهبة الاستعداد في مكان مجاور للمستشفى، حيث يمكنك التفاوض معهم حول سعر وحدة الدم التي يمنحونها لك .

ويبدو من سيماهم انهم عاطلون عن العمل ويكسبون قوت يومهم بالتبرع بالدم واعمال اخرى متناوبة، تتراوح بين مزاولة البناء الى بيع البضائع على الرصيف وتقاطعات الشوارع.

ومنهم (محمد س) الذي يشترط على من يتبرع له بالدم وجبات طعام دسمة من اللحوم والمشويات، لمدة يومين تدفع له مقدما، عدا ثمن كمية الدم التي يتبرع بها والتي يصل سعرها الى 75 ألف دينار عراقي لانه يحمل صنف الدم (+O) المطلوب بشكل كبير.

وبلغ عدد المرات التي تبرع بها محمد ثماني مرات من دون ان يعبأ للمخاطرة الصحية التي تسببها . وبحسب منظمة الصحة العالمية فان بإمكان الرجل أن يتبرع بالدم خمس مرات في السنة، مقابل ثلاث مرات للمرأة. ويروي محمد كيف استطاع في احد المرات بيع كمية من دمه بمبلغ ثلاثمائة دولار دفعة واحدة لشخص حالته طارئة . ويتابع محمد: لقد أنقذت حياة إنسان من الموت، لكني اعنت نفسي بالمال ايضاquot;.

ومحمد غير متزوج، ويعيش في غرفة مع مجموعة أخرى في السوق القديم في الحلة، لكنه يرى ان صحته لم تتدهور من التبرع بالدم بقدر تأثير التدخين وتناول المشروبات الروحية عليه، لكن محمد العاجز عن العمل على حد قوله يحصل منذ بداية العام 2011 على راتب رعاية اجتماعية لا يلبي كل احتياجاته.

ومنذ العام 2010 تندر الحالات التي يتبرع بها محمد بالدم لكنه يضطر تحت إلحاح الزبائن الذين يصلون اليه عبر وسطاء في هذه التجارة، من الرضوخ لعروضهم التي غالبا ما تكون مغرية. ويتذكر محمد كيف أنقذ طفلا مصابا بمرض تفسخ الدم من الموت بعدما تبرع له بوحدتي دم مقابل مبلغ يعادل المائة وخمسين دولارا.

غطاء التبرع الإنساني
ولم تتوقف إلى الآن تجارة الدم بحسب محمد لكن تمارس تحت غطاء التبرع الإنساني بعد اتفاق بين الأطراف خارج المستشفى . وبحسب مبادئ السوق فان الأمر يتطلب الكتمان، وان لا يتحمل اي طرف مسؤولية النتائج التي تؤول اليها الصفقة .

وفي العام 2011 فان أغلب الحالات التي يتم بها التبرع بالدم هي الحوادث المرورية وأعمال القتل الجنائي والعمليات الجراحية التي يحتاج أصحابها إلى الحقن بالدم، و الأمراض التي تحتاج عمليات نقل الدم، مثل فقر الدم الباقلائي واللوكيميا التي يحتاج المصاب بها الى استبدال دمه كل شهر للبقاء على قيد الحياة.

لكن السنوات السابقة منذ العام 2003 ولغاية نهاية العام 2008 والتي شهدت أعمال القتل الطائفي أدت إلى وجود حاجة كبيرة للمتبرعين بالدم ولاسيما ان فترة تخزين الدم يجب أن لا تتجاوز rlm;45rlm; يوما، يصبح بعدها الدم غير صالح للاستعمال، ما ساهم في رواج هذه التجارة على أيدي سماسرة بيع الدم الذين جمعوا أموالا طائلة مستغلين حاجة المتبرع للأموال واستعجال الآخر لإنقاذ حياته.

عروض مغرية
وفي العاصمة بغداد يتواجد quot;وسطاءquot; أمام المركز الوطني لنقل الدم وبحوزتهم عروض التبرع بالدم للمحتاجين مقابل مبالغ تتراوح بين الأربعين الى الستين دولارا لكل 350 سم مكعب من الدم. ولا يمكنك الوصول بسهولة الى بائعي الدم فقد لا تجدهم في الوهلة الأولى، لكنك تصل إليهم عبر السماسرة والوسطاء الذي يقلبون نياتك وأهدافك ليتأكدوا من أن الأمر على ما يرام، حتى يبدأوا بمفاوضتك على الصفقة.

تجارة محرمة شرعا
ويشير رجل الدين كريم الوائلي الى ان التبرع بالدم مقابل مبالغ مالية، حرام شرعا الا اذا كان الغرض منه المساعدة فقط . ويتابع : أن تتحول هذه الممارسة الى تجارة لها سماسرة وبائعون ومشترون فهذا ما لا يقبله الشرع، كما ان الأعراف الاجتماعية والقيم الإنسانية ترفضه.

واغلب صفقات بيع الدم تتم بصورة سرية حيث يتم التفاهم حول المبلغ والكمية والشروط خارج المستشفى او مكان التبرع، لكنها تظهر الى العلن وتمارس تحت غطاء المساعدة الإنسانية. وغالبا ما تتم الصفقات عبر سمسار له علاقات شبكية مع موظفين صحيين يعملون في المستشفى او مكان التبرع .

لكن عدد الأشخاص المتبرعين بالدم يتناقص اليوم، فمنذ العام 2010 انحسرت الظاهرة بشكل كبير جدا مع تزايد فرص العمل وعودة الأمن وتزايد الرقابة. ويتذكر محمد ان أعداد بائعي الدم الذين يتجمعون في أماكن قرب المستشفى كانوا بالعشرات وأحيانا يصل عددهم الى الثلاثين شخصا أما اليوم فان عددهم لا يزيد على الخمسة أو الستة يوميا.
أزمة بنوك الدم
ويقول امين حسين وهو موظف صحي في قسم الطوارئ في مستشفى بابل، ان بنوك الدم في المستشفيات العراقية بدأت تسترد عافيتها، وهذا يفسر تناقص عدد المتبرعين بالدم وما شجع على ذلك تزامن انخفاض وتيرة الاقتتال الداخلي، مع تحسن مستوى الاقتصاد و زيادة القدرات الشرائية للمواطن العراقي.

لكن الباحث الاجتماعي سامر الحسن يرجع اغلب الفعاليات الاقتصادية الخارجة على القانون إلى البطالة في المقام الأول، فلو كان لبائعي الدم مصدر دخل يؤمن لهم لقمة العيش لما باعوا اغلى ما يملكه الانسان وهو الصحة.

مليون عاطل عن العمل
ويشير الحسن الى أن اغلب الممارسين لبيع الدم هم من الشباب والفتيان، الذين يمتلكون روح المجازفة للتبرع بدمائهم، وتتفشى البطالة بينهم حيث تشير إحصائيات العام 2011 الى وجود حوالي مليون ونصف المليون عاطل عن العمل، وتتركز النسبة الاكبر بين الشباب.

ويشير علي صاحب الطبيب في مستشفى الكرامة في بغداد الى ان الاكثار من تبرع الدم يسبب نقصا بالكريات الحمراء والبيضاء في الجسم، وابعاد شبح الجوع بهذه الطريقة يوقع المتبرع في شباك المرض ويزيد من احتمال إصابته بالأمراض المعدية مثل الآيدز، وبالتالي فهو خاسر لا محالة.

وبحسب ضياء حسن الذي عمل لمدة عشرين عاما في بنوك الدم العراقية فإن أزمات البنوك بدأت منذ منتصف الثمانينات حين اشتد زخم الحرب العراقية الايرانية ووقتها كان النظام السابق يعتمد على الدم المستورد بشكل اساسي اضافة الى حملات الدم الجماعية بين طلاب المدارس والجامعات وقطعات الجيش البعيدة عن جبهات القتال لسد العجز في بنوك الدم .
ويتابع ضياء: أصبحت الظاهرة مألوفة منذ الثمانينيات بين العاملين في الوسط الصحي، وما عليك الان الا ان تشير الى سمسار ليوفر لك قناني الدم التي تحتاجها، من احد عملائه الذي يحتفظ بعناوينهم وأرقام تليفوناتهم وأصناف دمهم .
ويضيف: اغلب العملاء من العاطلين عن العمل يتبرعون لك بالدم مقابل عشرين الى ثلاثين دولارا لكن السمسار هو من يبتز المريض ويحاول الحصول على أعلى ثمن.