إعلانات تغطي الجدران في بغداد

تنتشر في شوارع المدن العراقية إعلانات وشعارات سياسية وتجارية بشكل عشوائي، الأمر الذي يشوّه جمالية تلك المدن، في وقت لا تتوافر فيه إحصائية حول حجم تجارة الإعلان في العراق ومردوداته الاقتصادية.


لا يكترث التاجر سليم محمد للكلفة المالية لنحو المئات من الإعلانات الورقية لشركة تركية، أصبح وكيلاً لها منذ نحو سنة، فبمجرد تكليف اثنين من الفتيان وبمبالغ بسيطة جدًا، سينتشر الكثير من الملصقات في الشوارع المجاورة التي تروّج للمنتج التركي، بعدما ألصقت على الجدران ومواقف الباصات والكراجات، والأعمدة الكهربائية، وصناديق شبكات الكهرباء المعدنية.

لا تخلو مراكز المدن العراقية اليوم من الإعلانات التجارية والشعارات السياسية وصور السياسيين والنواب، وكلها أساليب لتسويق بضاعة أو برنامج سياسي، بحسب مصمم الإعلانات محمد القيسي.

مصالح اقتصادية ومكاسب سياسية
تشير تجربة محمد في التصميم إلى أنمعظم الذين يضعون الإعلانات هم في المحصلة يهدفون إلى تحقيق مصالح اقتصادية ومكاسب سياسية، عن طريق إشهار بضاعتهم وشعاراتهم على الناس عبر إعلانات (الطرق) المجانية غير المكلفة.

أكثر أنواع الإعلان انتشارًا في أسواق العراق اليوم هي إعلانات quot;الفلكسquot; والإعلانات الضوئية. وبحسب القيسي، فإن تكلُفة الإعلان في السنة الواحدة على أسطح البنايات أو جدرانها يصل إلى نحو مائتي دولار.

ويتابع: فيغالبية دول العالم المتحضر فإن إعلانات كتلكتدرّ على البلاد الكثير من الأموال بحكم الضريبة التي يتوجب دفعها، حيث تتولى شركات متخصصة عمليات تصميم وطباعة الإعلانات، موفرة الآلاف من فرص العمل.

ويتابع: من حق الجميع الدعاية لنفسه، لكن في الكثير من الأحيان يحتوي الإعلان على مضمون لا يتطابق مع الواقع. ويقول مثلما يضع التاجر مواصفات تدل على الجودة العالية في الإعلان لكسب المستهلك، فإن الكثير من السياسيين يقصدون ورشته الطباعية بغية كتابة لافتات وصور وإعلانات، غالبيتها وعود وإغراءات للمواطن بغية كسب صوته.

بعد العام 2003، صدر دليل بغداد الدولي الإعلاني من قبل شركة قطاع خاص، والذي يضم أكثر من خمسين ألف إعلان.

العراق لا تتوافر فيه إحصائية
بحسب حسن حامد من غرفة تجارة كربلاء، فإن العراق لا تتوافر فيه إحصائية حول حجم تجارة الإعلان في البلاد ومردوداته الاقتصادية.

وتعمّغالبية مدن العراق ظاهرة الملصقات، التي تزدحم بصور السياسيين والنواب والمرشحين أيام الانتخابات، وتظل لفترة طويلة، لا تزيلها إلا الرياح وعوامل التعرية.

ينطبق الأمر نفسه على الإعلانات التجارية للمحال والمتاجر، التي تلصق على الجدران بطريقة يصعب معها إزالتها.

وبحسب المصمم سعد القريشي، فإنه قبل العام 2003 كانت هناك رقابة شديدة على المصانع، ولم يكن من الممكن طباعة إعلان أو ملصق من دون أخذ موافقة الجهات المعنية، لاسيما الأمنية منها.

وفي شارع الرشيد في بغداد، تتنوع الإعلانات التي تغطي الجدران والأعمدة وواجهات المحال، حيث تختلط صور قديمة لنواب وسياسيين بإعلانات عن منتجات شعر جديدة، وأخرى عن منتجات شركات عراقية وأجنبية، كما تلفت الانتباه ملصقات لأدوية ومواد تنظيف ومراهم للشعر والجسم.

الملصقات
على امتداد الطريق تلمح الملصقات التي ثبتت على وجه السرعة، حيث تتزاحم مع بعضها، وتربك المواطن لكثافتها، وبينها دعايات لدورات باللغة الانكليزية، ودعوات إلى القبول في جامعات أوروبية وهندية وأوكرانية، إضافة إلى دورات في الحاسوب وتعلم اللغة الانكليزية، والرياضيات والعلوم المختلفة.

في أحد الشوارع الجانبية بين شارعي أبي نؤاس والسعدون، يلفت انتباهك إعلان لقارئة كفّ تنبئك بالمستقبل، حيث يحثّ الإعلان على زيارتها، لأنها ستقول لك الحقيقة كاملة.

ويشير الفنان رؤوف حسين إلى انحدار الذوق الفني العام في المدن، لاسيما العاصمة بغداد، حيث يشترك النواب والتجار والسياسيون على حد سواء في تخريب الذوق العام، وتقبيح البيئة المحيطة.

وتؤكد الطالبة لمياء قاسم من جامعة بغداد أن هذه الإعلانات اخترقت حتى الجامعات والمعاهد. وتضيف: على رغم أنها ممنوعة، لكنها تنتشر بين المؤسسات والمعاهد الحكومية والخاصة انتشار النار في الهشيم.

الكتابات العشوائية
إلى جانب الإعلانات والملصقات، فقد انتشرت الكتابات العشوائية في الشارعrlm;،rlm; التي تحمل في معانيها في بعض الأحيان كلمات (نابية) ومباشرة.

ويشير سليم كامل في بغداد الجديدة إلى الكثير من الشعارات السياسية، وبينها شعارات طائفية، خطت على الجدران منذ سنوات، ولاتزال مائلة، رغم أن الزمن عرّى بعض ملامحها.

ويتابع: كثيرون يجدون في الجدران ونُصُب الشوارع العامة وسيلة ناجعة لبثّ أفكارهم وتسويق مصالحهم، حيث يستغلون الخلوة ما بين الليل وحتى الفجرrlm; لقلة انتشار الوجود الأمني وانحسار حركة الناس، حيث يجدون الفرصة مواتية لإشهار دعايات تجارية أو شعارات سياسية.

وفي الأعوام منذ 2003، نجحت الجماعات المسلحة في بغداد وديالى ومدن أخرى في الجنوب في تسخير الجدران وواجهات البنايات إلى وسيلة دعاية لأفكارهم، حيث تستخدم الأصباغ والألوان، التي تصعب إزالتها، لنشر أفكار سياسية وطائفية معينة.

يروي سعد الكناني، حيث يطل بيته على الشارع الرئيس العام في مدينة المحمودية ( 15 كلم جنوب بغداد) كيف أن مجهولاً خط كلمات بحروف كبيرة متميزة على جدران منزله، وتتضمن نصوصًا دعائية لشركة معينة، وحين قصد تلك الشركة أبلغوه أنهم غير مسؤولين عن ذلك، ولا يعرفون الفاعل.

وأضاف: أجابتني موظفة في الشركة بأن كثيرين (يعجبون) بمنتجات الشركة، فيشهرون الإعلان عنها بصورة تطوعية. لكن الكناني يرى في تفسير تلك الموظفة، تجافيًا للحقيقة، ولا يعبّر عن منطق.

تدني الذوق العام
تعمّ فوضى الإعلان في العراق بطريقة تدل على البدائية في التقنية وتدن في الذوق العام، فهناك تناقض صارخ في الألوان وأسلوب الكتابة، وكذلك محتوى هذه الإعلانات.

وسعت أمانة بغداد إلى إزالة الكثير من الإعلانات، معلنة عن فرض عقوبات على المخالفين، لكن ذلك كان ذا تأثير محدود، بسبب كثافة الإعلانات، التي تحتاج جيشًا من العمال لإزالتها.

يقول الاختصاصي النفسي سليم الأسدي إن هذه إحدى علامات (تدني) الذوق العام، وهي تستفز المشاعر والبصر بشكل حاد. ولا يرى الأسدي أن الرقابة ستحول دون هذه الظاهرة، لكنه الوعي، والتعليم كفيلان بحصارها.

يطالب البعض، بينهم كريم حسن (موظف)، برقابة على الشوارع والميادين، وفرض غرامات على الشركات والمطابع على حد سواء، إذا لم تلتزم بالقوانين المرعية.

ويرجع التاجر حسين الساعدي في الشورجة (سوق رئيسة في بغداد) أسباب الظاهرة إلى تنامي دور القطاع الخاص ومشاريع الاستثمار. لكنه يعترف بأن هناك فوضى في الإعلان، بسبب تغليب منفعة الشركة والمصلحة الشخصية على المصلحة العامة.

فن جميل
يرى الفنان شبيب عيدان أن الإعلان فن جميل، وهو يقترب كثيرًا من البوستر، لكن المشكلة في المحتوى، والمكان المناسب الذي يوضع فيه.

ويتابع: حين تصمم إعلانًا بشكل جذاب وجميل، فإن ملامحه الجميلة ستتحول إلى (قبح) إذا ما اُشهِر بطريقة عشوائية في شوارع المدن في أماكن غير مناسبة. ويقول: على من يمارس هذا الفن أن يكون ذا إلمام فني، كي يستطيع إبراز النواحي الفنية والجمالية وإيصال أفكار معينة تحفز المتلقي وتثير فضوله.

ويشير إلى أن كثيرين من أصحاب المطابع وموزعي الإعلانات يتصورون أن الإعلان مجرد خطوط عشوائية يضعها هنا وهناك من لا صلة له بهذا الفن، حيث أذابت الإعلانات الهوية الثقافية والتراثية لمدن العراق.