في وقت تشتدّ فيه الأزمة السورية، ينبري طلاب وموظفون ومُدّعون للممانعة والصمود، يتم استقدامهم من لبنان والأردن، لنصرة بشار الأسد، يجمعهم شيء واحد، الرقص والدبكة والغناء، ويتفرّقون في النهاية على وعد من أزلام النظام بأن الأمور قد حسمت، وأن الأزمة quot;خلصتquot;... لكن الثورة quot;لم تخلصquot; بعد.

مؤيّدون للأسد خلال تظاهرة في دمشق

دمشق: لطالما شكل تجمع مئات الآلاف، وربما الملايين، في ساحات دمشق، حيث تتجمع المراكز الأمنية والحكومية وتتركز قوة النظام، مشهداً مثيراً للاستفزاز والاستغراب من قدرة النظام على تجميع كل هذه الجموع المؤلفة من الناس بشكل (عفوي) (لا إرادي) (شعبي).. إلى آخر ما هنالك من صفات تسبغها على مسيرات التأييد، قنوات التأييد التلفزيونية المعروفة.

ما من ريب أن استمرار الأزمة في سوريا وتصاعد الحراك الشعبي ضد النظام، وولوغ قواته الأمنية في دماء الشعب السوري في أكثر من منطقة ومدينة وبلدة، قد أسهم في تناقص أعداد المتجمهرين، وبالتالي، قدرة بعض quot;أبواقquot; النظام على الترويج لقوة النظام الأسدي وشعبيته ورسوخه أمام الفضائيات المتآمرة عليه ضمن حملة المؤامرة الكونية.

بداية، أن تكون quot;منحبكجياًquot;، وهو المصطلح الدال على تأييد النظام ورأس هرمه تحديدًا، مشتق من لفظ أطلقه النظام إبان الترويج لحملة انتخابية للرئيس بشار الأسد، وهي كلمة (منحبك)، التي وزّعهافي كل الميادين والشوارع، وصيغت منها الأغاني والأهازيج، وتعني (نحن نحبك) باللهجة الشامية حصراً، رغم أن للكلمة دلالة عكسية في بعض اللهجات المشابهة للهجة العراقية في شرق سوريا والمناطق المحاذية للحدود مع العراق، إذ تعني العكس تماماً، وهو الأمر الذي لم يفطن له صائغو الشعار الأشهر لدى مؤيدي النظام!.

أن تكون quot;منحبكجياًquot; بإضافة دلالة المهنة باللغة التركية (جي) إلى الكلمة تعني وصفاً امتهانياً من قبل أنصار المعارضة لشخص تجمعت لديهغالبية صفات الدونية والخنوع والقبول بالامتطاء من قبل النظام وأزلامه، إلى درجة وصف المعارضين هذا الصنف من السوريين بأن لديهم quot;متلازمة استوكهولمquot; الشهيرة، التي تعاطف فيها الضحايا مع خاطفي بنك احتجزوهم فيه لستة أيام، ما أدى إلى التعاطف الكبير بين الجاني والضحية ودفاعهم عنهم بعد ذلك أمام القضاء، ويقول نشطاء الثورة: quot;إذا كانت ستة أيام كفيلة بغسل دماغ ضحية إزاء الجاني عليها، فما القول إذن بأكثر من خمسة عقود من حكم البعث لسوريا، وأربعة عقود للأسد الأب، وعقد كامل للأسد الابنquot;؟!.

دفعني الفضول إلى quot;الاندساسquot;، وهذا المصطلح، والشيء بالشيء يذكر، مصطلح مقابل للمنحبكجي، لوصف معارضي النظام، سرعان ما أضحى مثاراً للتهكم من قبل نشطاء الثورة أنفسهم، ومداعبة لطيفة في ما بينهم، في صفوف الحشود الغفيرة والكبيرة التي تجمعت في ساحة السبع بحرات (الصغيرة) نسبياً بالمقارنة مع ساحة الأمويين الأكبر في دمشق، والتي كان من المفترض أن يتجمع المؤيديون فيها على أساس تصويت الرئيس وزوجته على الدستور في مبنى الإذاعة والتلفزيون المطلّ على الساحة، ومقابلة جماهيره (العريضة) فيها، لكن دواعي أمنية تتعلق بسلامة الرئيس، وضآلة حجم المتوافدين إلى الساحة، دفعهم إلى اختيار الساحة الأصغر لتجميع ما يقرب من 2-3 آلاف شخص على الأكثر!.

في الساحة وجوه غريبة لا تكاد تميزها من غرابة تصرفاتها، تجمع بينها قواسم مشتركة، لا تشي أن شيئاً ما يحدث في هذا البلد، الكل مفعم بالحيوية والزهو، ويرقص طرباً على أنغام أغان وطنية ومتزلفة للنظام ورأسه، تتوسط الساحة الصغيرة منصة لتقديم فواصل من الخطب العصماء لرجالات ممن quot;امتهنواquot; المقاومة والممانعة و.... لتأييد النظام والتأكيد على انتصاره على حربه quot;الفضائيةquot;، على حد تعبير الرئيس بشار عند مقابلته لوسائل الإعلام في التلفزيون السوري، داعياً الجميع إلى الانتصار في الواقع.. وفي الفضاء!.

ولكن، ما هي الفئات التي تتجمع في ساحات التأييد الاعتيادية، والتي باتت تتآكل يوماً بعد يوم نظراً إلى نفاد مخزونها البشري؟.

أولاً: هناك فئة الموظفين، الذين يتم حشرهم إلى الساحة quot;غصباً عنهمquot;، وأكد ذلك العديد من الموظفين الحكوميين، وثبتته صور وفيديوهات تجميعهم في باصات وحافلات لنقلهم إلى مثل تلك التجمعات، وهؤلاء يشكلون الخزان الأكبر لمثل هذه التجمعات، وبصرف النظر عن تأييدهم أو معارضتهم، فإن الموظف السوري، الذي quot;ملّquot; امتهانه على هذا النحو، سرعان ما يقوم بمغافلة مراقبيه من عناصر الأمن الموزّعين في كل دائرة حكومية، ليهرب منأحد جوانب الساحة مشياً على الأقدام ومتابعاً طريقهنحو منزله.

ثانياً: طلاب المدارس والمعاهد، وهؤلاء أيضاً من السهل جمعهم من أماكن وجودهم، خاصة أن المؤسسة البعثية المسؤولة عنهم (اتحاد شبيبة الثورة) لا تزال فاعلة حتى اليوم، وهي تقوم بواجبها على أكمل وجه، رغم إقصاء حزب البعث بموجب الاستفتاء الجديد عن قيادة الدولة والمجتمع؟!.

لكن هذه الشريحة من المؤيدين يطول بقاؤها في ساحة التجمع أكثر من الموظفين، لمآرب أخرى، خبرناها جميعاً، عندما كنا quot;مراهقينquot;، ففي الطريق من الشوارع الفرعية إلى الساحة الرئيسة للتجمع، تشاهد عشرات الشابات والشبان على جنبات الطريق، وهم يتجاذبون أطراف الحديث على استحياء، وهو ما تدل عليه طريقة وقوفهم وكلامهم، ما يعني أن الغاية من التواجد وإدامة الحضور هو الحصول على موعد غرامي quot;مجانيquot;، وهي من المزايا التي يباهي بها quot;المنحبكجيquot; دوماً.

ثالثاً: شرائح مستقدمة غالباً من الأردن ولبنان على أنها مجموعات شبابية مقاومة وممانعة وضد التدخل الخارجي في سوريا، ومع النظام بطبيعة الحال، تتقدمها أحزاب قومية عربية باتت معروفة، ويقودها إلى مراكز التجمع quot;خطباءquot; من الصنف الذي أكل الدهر عليه وشرب، وفي زيارتنا الأخيرة إلى ساحة السبع بحرات، صادف أن كان حاضراً الأستاذ الإعلامي (ناصر قنديل) المعروف بمواقفه الممالئة للنظام والمحرّضة طائفياً ضد خصومه، وفي أحد مقاطع خطبته quot;العصماءquot; لم يتوان قنديل عن مهاجمة المملكة العربية السعودية، مطالباً بإعادة تسميتها quot;ببلاد الحجازquot;، وأن النظام الملكي الحالي قد quot;احتلquot; البلاد، وأنه بعد انتهاء الأزمة الحالية في سوريا، سوف يطالبون جميعاً بتحرير السعودية من نظام الحكم القائم، وسط تصفيق جموع الحاضرين غير الواعين بما يقوله قنديل، والمنشغلين بتبادل الغمزات، وحتى اللمسات الخفية عن أعين المتجمهرين!.

رابعاً: شرائح طائفية ومذهبية من أنصار أقليات معينة لا يمثلون إلا أنفسهم حالياً، وغالبيتهم من المنخرطين في أجهزة الأمن والجيش والمنتفعين من النظام الحالي، وهم من أشرس أنصار النظام وأخطرهم، ولا يكاد يقيمون وزناً لأي خبر أو واقعة تدين النظام، إلى درجة أن أحدهم نشر على صفحته على فايسبوك تحذيراً لزملائه، من أن quot;المخرّبينquot; وquot;الإرهابيينquot; قد نجحوا في شق نفق من حمص (بابا عمرو) إلى المزّة في دمشق، حيث خرجوا على جموع المشيّعين هناك، وأطلقوا النار عليهم، ليبرر به ما رآه من إطلاق نار هناك؟!.

بين شرائح quot;مجبرةquot; على الخروج في ساحات التأييد والولاء والوفاء والنصرة والدعم للنظام الحالي، وشرائح منتفعة منه ومن مزايا مؤقتة يغدق بها النظام على quot;رعيتهquot;، وأخرى quot;تقتاتquot; على الولاء لنظام دموي آتية من وراء الحدود بزعم دعم نظام قومي مقاوم مع خطبائها المفوهين والمحرّضين، وشرذمة طائفية ومغيبة عن الواقع، تشعر وأنت تقطع ساحة السبع بحرات بأنك في quot;مولدquot;، كما يقول إخواننا المصريون، لا في موقف تشتد فيه الأزمة، التي تعانيها البلاد منذ ما يقرب من عام، يجمعهم شيء واحد، الرقص والدبكة والغناء، ويتفرّقون في النهاية على وعد من أزلام النظام بأن الأمور قد حسمت، وأن الأزمة quot;خلصتquot;، بحسب التعبير السوري الدارج، ليتندر أحد الواقفين في الساحة عند سماعه لهذه العبارة المكررة، بالقول: quot;نعم.. سوريا خلصت... والأزمة بخير!؟quot;.