يقبل العراقيون ومنهم الشباب على التدين بشكل غير مسبوق. يتمثل ذلك في ارتياد المساجد وأداء الشعائر الدينية، وزيارة العتبات المقدسة ومراكز الأولياء والصالحين. لا يقتصر الأمر على المسلمين فحسب، كما إنه لا ينحصر في طائفة معينة، بل يشمل مختلف المذاهب، كما تنتشر ظاهرة التدين بين المسيحيين والصابئة والأديان الأخرى أيضًا.


مصلو الجمعة في الكاظمية في مدينة بغداد

وسيم باسم من بغداد: من أبرز مظاهر الإقبال على التدين في العراق بناء المساجد على نفقة المواطن الخاصة، بل ولجأ البعض إلى اقتطاع جزء من بيته لغرض إنشاء مسجد أو (حسينية) فيه.

فقد بنى أبو حسين في بستانه الواقع على طريق عام في كربلاء (108 كم جنوب غرب بغداد) مسجدًا كبيرًا، قال عنه إنه ثمرة من ثمرات النعم التي رزقه الله بها. وعلى الطريق بين بغداد وبابل (100 كم جنوب بغداد) تبدو على الطريق عشرات المساجد التي بنيت بتبرعات وجهود شخصية. وقبل العام 2003 لم يكن بإمكان شخص بناء مسجد وفق رغبته من دون موافقات خاصة من الجهات المعنية.

الحرص على أداء الفرائض الدينية
علي حسين شاب جامعي يحرص أشد الحرص على أداء الفرائض الدينية، رغم انشغاله بالدراسة وزحمة الوقت لديه، لكنه يقول إن الواجبات الدينية تسبق كل شيء. ويتابع: لكن البعض ينشغل بوسائل اللهو ويقضي ساعات طويلة خلف شاشات الكومبيوتر وصالات الألعاب، بينما يمارس البعض منهم الطقوس الدينية في المناسبات الدينية فقط مثل رمضان.

ورغم الانفتاح الذي يشهده العراق إعلاميًا واجتماعيًا، إلا أن ذلك لم يشكل عائقًا أمام الإقبال على التدين بحسب الباحث الاجتماعي كريم حسين، الذي يرى أن موجة التدين بين العراقيين ليست جديدة، فقد بدأت منذ بداية الثمانينات حين تصاعد المدّ الديني، ليس في العراق فحسب، بل في مختلف دول المنطقة والعالم.

وبحسب حسين، فإن النظام العراقي السابق كان يحرص أشد الحرص على فصل الدين عن السياسة، وكان لا يسمح بتوظيف الدين في السياسة، ما جعله يشنّ حملة شعواء على الأحزاب الدينية، مهما كان مذهبها وطائفتها. ويتابع: جرى كل ذلك في ظل حرص شديد على عدم الخلط بين الدين والسياسة.

في الوقت نفسه، حرص النظام السابق على إشاعة التدين المجرد من الأغراض السياسية، وأطلق الحملة الإيمانية التي تحضّ على أداء الشعائر الدينية.

استغلال الدين
ويقول رجل الدين أحمد الياسري إنه منذ العام 2003، وأصبح الإقبال على المساجد في العراق أمرًا ملفتًا للأنظار، كما تحرص الغالبية من الناس على أداء الطقوس الدينية والمشاركة في المناسبات الدينية.

لكن الباحث الاجتماعي حسين يرى أن بعض الأحزاب تحاول أن تستغل الوازع الديني لمصلحتها مستغلة المناسبات الدينية. ويضيف: أثناء المسير إلى كربلاء في ذكرى مقتل الإمام الحسين أو في أربعينيته، تحرص بعض الجهات على رفع شعاراتها السياسية وصور قادتها.

كما إن زيادة الوعي ndash; بحسب حسين - لدى الناس جعلهم يدركون مغزى ما تفعله الكتل السياسية ومحاولاتها تسخير الأجندة الدينية لمصلحتها.
ويتذكر الحاج أبو أيمن أن الحريات الدينية في فترات الحكم المتعاقبة التي مرت على العراق كانت موجودة، لكن السياسة لعبت دورًا كبيرًا في جعل الصورة ضبابية حول الموقف الحقيقي للحكومات من تلك الحريات. ويعترف أبو أيمن أن المرحلة الحالية هي أكثر الفترات التي مرت على العراق في نسبة إقبال الشباب على المساجد.

الانفتاح الاجتماعي والإعلامي
يربط الباحث الاجتماعي حسين بين الظاهرة وسعي الشباب إلى الوصول إلى طمأنينة في ما يخص المستقبل، بسبب القلق الذي يعايشونه كل يوم من جرّاء التغيرات الانقلابية التي تشهدها القيم بسبب الانفتاح الاجتماعي والإعلامي الواسع الذي يشهده العراق.

ويسعى معظم شباب العراق إلى تأكيد شخصيته وترسيخ هويته عبر الالتزام الديني والحرص على العادات والتقاليد الموروثة والوقوف في وجه مظاهر الانفتاح، حيث يعتقد هشام كامل (معلم) أنها من مظاهر عولمة تحاول إذابة الثقافة الإسلامية والوطنية.

وعبر الأنظمة التي حكمت العراق كان ينظر إلى المساجد والاجتماعات الدينية، لاسيما في التسعينات والثمانينات، على أنها تزيد من فرص التطرف، وتخرج أفرادًا متطرفين في أفكارهم وتصرفاتهم، بحسب الأستاذ عامر حسن من جامعة بابل، حيث يرى أن ذلك أدى إلى ابتعاد الشباب عن الطقوس الدينية والمساجد خوفًا من أعين الرقيب.

ويضم العراق الكثير من الأديان والمذاهب، ويحتل الإسلام المرتبة الأولى في أعداد معتنقيه، وهناك المسيحية والصابئة وأديان أخرى كثيرة.

التدين ينتشر بين المسيحيين
ويقول فوزي كريم (مسيحي) إن التدين ينتشر بين المسيحيين بشكل واسع اليوم وأكثر من أي وقت مضى. ويرجع كريم ذلك إلى ردود فعل المسيحيين من محاولة تغييبهم عن المشهد، وما تعرّضوا له من تنكيل واضطهاد وقتل، لكن حليم الأسدي، وهو رجل دين وإمام مسجد في بابل، يرى في ظاهرة الإقبال على المساجد بمثابة عودة إلى الإسلام، ورغبة شعبية في جعله يقود المجتمع، ودلالة على سقوط النظريات القومية والماركسية التي حاولت السيطرة فكريًا على المجتمع العراقي طيلة عقود، لكنها لم تفلح.

وتقول بشرى يوسف، وهي مسيحية من بغداد، إن محاولات تقييد الحريات الدينية وتهديد العنف للأقليات عزز الالتزام العقائدي. وتضيف أن الشباب المسيحي يقبل مثلما الشباب المسلم على أماكن ودور العبادة.

لا يربط عامر تايه الأستاذ في التربية الإسلامية في جامعة بابل بين اتجاه الشباب إلى التدين وانتشار التطرف الديني. ويقول إن ما يحدث هو العكس تمامًا، فكلما زاد التضييق على الحريات الدينية اتجه الشباب إلى التطرف.

ويشير الشاب وحيد حمزة إلى أن ممارسة الشعائر الدينية تدفعه إلى العمل الجاد وتعزيز التسامح الديني. ويقول: أذهب إلى المسجد كل يوم، حيث أقرأ القرآن وأصلّي. ويعتبر حمزة انتشار حجاب الإسلام أحد مظاهر انتشار التدين.

ويربط رجل الدين حميد المفتي بين إقبال الشباب على التدين وانخفاض معدلات الجريمة، ويقول إن التدين في العراق كنموذج لدولة عربية وإسلامية يخفض من معدلات الجريمة ومظاهر الفساد والرشوة.