فاز الائتلاف الوطني على الإسلاميين في ليبيا، لأنه كان الخيار الأكثر تنوعًا، والصوت الأشد اعتدالاً بين القوى التي خاضت الانتخابات. فللائتلاف إيديولوجيات مختلفة وتنظيمات مختلفة وشخصيات مختلفة. وهو ليس إيديولوجيا واحدة، ولعل هذا ما جعلهم جذابين.


ليبيا تنحو عكس بلدان أخرى اجتاحها الربيع العربي

إعداد عبد الإله مجيد: تبدو ليبيا عازمة بإصرار على أن تثبت أن المتشائمين على خطأ. فعندما تطورت الثورة بسرعة إلى حرب أهلية عنيفة في العام الماضي حذر المجتمع الدولي، بل حذر الكثير من الليبيين أنفسهم، من الغوص في مستنقع. وكان التكبير بعبارة quot;الله أكبرquot; صرخة الحرب التي اعتمدها الثوار في إسقاط معمّر القذافي، ثم سطع نجم الجهاديين بوصفهم قادة ميليشيات وسياسيين في الفراغ الذي تركه سقوط الدكتاتور، جلادهم السابق.

كانت ليبيا منذ نشوئها بلدًا محافظًا ومتجانسًا، سكانها الستة ملايين كلهم تقريبًا مسلمون. لهذا السبب عندما توجه الليبيون إلى صناديق الاقتراع يوم السبت في أول انتخابات عامة منذ عام 1965 افترض العديد من المراقبين، لسبب وجيه، أنه إذا انتخبت الجارتان تونس ومصر حكومات إسلامية في أعقاب ثورتيهما، فالمؤكد أن ليبيا ستحذو حذوهما.

لكن ليبيا كانت خلال الأشهر الـ18 منذ إطلالة الربيع العربي حالة شاذة في العالم العربي، فهي خاضت الحرب، فيما خاضت الدول الأخرى الاحتجاج، وأسقطت نظام الحكم بكامله، بدلاً من إطاحة رأسه فحسب. وفي الآونة الأخيرة، حققت ليبيا استقرارًا لافتًا رغم كل التحديات. ومع توارد الأنباء عن نتائج الانتخابات، تبدو ليبيا سائرة بعكس اتجاه آخر، وسم الربيع العربي، هو صعود الإسلاميين.

بعد أسابيع على انتخاب المصريين محمد مرسي ليكون أول رئيس إسلامي في تاريخ مصر وبعد أشهر على انتخاب برلمان يسيطر الإسلاميون على غالبية مقاعده، تشير الدلائل إلى فوز تحالف القوى الوطنية ذي التوجه العلماني، بقيادة محمود جبريل، رئيس وزراء المجلس الوطني الانتقالي سابقًا بغالبية في المؤتمر الوطني المؤلف من 200 مقعد. وعندما يشرع المجلس المنتخب حديثًا في تشكيل حكومة تحل محل المجلس الوطني الانتقالي هذا الشهر، فإنه من الجائز تمامًا أن يصبح جبريل أول رئيس وزراء في ليبيا بعد الثورة.

كل هذا قد يدفع بعض المراقبين إلى فرك عيونهم غير مصدقين، وربما تعميهم شمس ليبيا الساطعة. لكن محللين على الأرض يقولون إن هذا المآل منطقي أكثر مما قد يظن هؤلاء. فبادئ ذي بدء فإن كثيرًا من الليبيين صوّتوا على أساس الانتماءات القبلية والعائلية، وليس على أساس التحالفات الأيديولوجية. ويرى محللون أن انعدام الخبرة السياسية ربما أدى إلى تشتت أصوات الإسلاميين، رغم الأفضلية التي اكتسبها ائتلاف جبريل بضم وجوه معروفة وقوى تمثل القبائل والمدن الليبية عامة.

لكن كثيرين يشيرون أيضًا إلى أن جماعة الإخوان المسلمين وزعماء ميليشيات إسلاميين، مثل عبد الحكيم بلحاج، الذي يقود الآن حزب الوطن الإسلامي، بعدما كان مشبوهًا بتهمة الإرهاب، عذبته وكالة المخابرات المركزية الأميركية وسلمته إلى القذافي، لم يكن لهم ذات يوم في ليبيا الرصيد الشعبي الذي كان لنظرائهم في مصر.

فإن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك سمح للإخوان بمد شبكات من العمل الخيري والاجتماعي وحتى بالترشح للبرلمان. وفي المحصلة النهائية كان الإخوان المسلمون أحسن تنظيمًا وأكثر استعدادًا في مصر. أما القذافي فإنه لم يتسامح قط مع الإسلاميين، ولم يطق حتى وجود أحزاب سياسية ضعيفة. وكان أصحاب اللحى أو المتعاطفون سياسيًا مع الإسلاميين يخضعون للرقابة ويتعرضون للاعتقال، حتى إن ليبيين قالوا إن التدين أو الرأي بات جريمة في عهد القذافي.

ولعل انتهاء فترة المنفى والقمع منح الإسلاميين دفعة في البداية عندما كان الأمر يتعلق بالتنظيم السياسي خلال الانتفاضة، ولكن ذلك كان يعني أيضًا أن يبدأوا من المربع الأول، مثلهم مثل سائر الآخرين. واعترف قيادي في جماعة الإخوان المسلمين الليبية لمجلة تايم في أواخر العام الماضي بأنه لم تكن لديه أية فكرة عن عدد المنتمين إلى الجماعة داخل ليبيا.

وقال الأمين بلحاج بعد سيطرة الثوار على العاصمة طرابلس إن جماعة الإخوان المسلمين موجودة منذ زمن طويل يعود إلى عام 1951، ولكنها اختفت بعد مجيء القذافي، مشيرًا إلى أول اجتماع غير سري عقده الإخوان في طرابلس بعد يوم على وقوع طرابلس بأيدي الثوار.

وفي الأشهر التالية التي عمل الإخوان المسلمون خلالها على كسب أتباع سياسيين، أضرت بصورتهم شائعات سرت عن تمويلهم من دول خليجية مثل قطر، بحسب مجلة تايم، مشيرة إلى إطلاق اتهامات بالتدخل المالي في شؤون ليبيا. ويقول كثيرون في ليبيا إن الليبيين ربما قبلوا معونة حلف الأطلسي وقطر في نضالهم ضد القذافي، ولكنهم ليسوا مستعدين لقبول التدخل الخارجي في حياتهم السياسية بعد الثورة.

ويرى مراقبون أن مصر وتونس قدمتا مثالاً مفيدًا، ولكنه كثيرًا ما كان مفيدًا بالمعنى المعاكس. فكلا البلدين أجريا انتخاباتهما الأولى بعد الثورة قبل ليبيا بأشهر عدة. وظن العديد من المحللين أن فوز الإسلاميين في تونس ومصر سيعطي الإسلاميين الليبيين زخمًا من الشعبية والثقة. ولكن هذين الانتصارين كانا تحذيرًا أيضًا.

ونقلت مجلة تايم عن مسؤول أجنبي في منظمة غير حكومية عمل في ليبيا طيلة الفترة الانتقالية أنه quot;بعد انتخاب محمد مرسي في مصر نظر كثير من الليبيين من حولهم، وأرادوا أن يُظهروا ما يشير إلى استقلالهمquot;. كما شهد الليبيون صعود الإخوان المسلمين إقليميًا، وحديث قياديين من الإخوان المسلمين في مصر وتونس عن إقامة وحدة إقليمية. وأضاف المسؤول الأجنبي إن التصويت ضد الإسلاميين كان بالنسبة إلى بعض الليبيين تأكيدًا جديدًا على استقلال ليبيا، ورسالة مؤداها quot;نحن لسنا جزءًا من امبراطوريتكمquot;.

ونال جبريل، الذي يرشح مراقبون ائتلافه لقيادة الحكومة الجديدة، نصيبه من الانتقادات اللاذعة. ولن يكون تشكيل حكومة جديدة بقيادته مهمة سهلة. إذ عمل جبريل مستشارًا اقتصاديًا لنظام القذافي خلال سنواته الأربع الأخيرة، واستقال في بداية الانتفاضة. واتهمه البعض من أشد منتقديه، لا سيما من داخل المجلس الوطني الانتقالي نفسه، بإدارته عملية انتقالية عنوانها الفساد وانعدام الكفاءة.

ويقول كثيرون أيضًا إن ارتباطاته بالنظام السابق تجعله خيارًا غير موثوق لقيادة ليبيا إلى الأمام. وفي الحملة الانتخابية القصيرة قبل انتخابات السبت الماضي، حاول العديد من خصوم جبريل تصويره من فلول الحقبة القذافية، بل quot;فلولي علمانيquot;.

لكن خبراء يشيرون إلى الحقيقة الماثلة في أن ائتلاف جبريل لم يكن ذات يوم علمانيًا خالصًا، معتبرين ذلك سببًا أسهم في فوزه. وقال جبريل وغيره من قادة الائتلاف إن الشريعة يجب أن تبقى مصدرًا مهمًا من مصادر التشريع في ليبيا الجديدة.

وأوضحت هناء القلال عضو المجلس الوطني لحقوق الإنسان والأستاذة في جامعة بنغازي أنها رغم مشاعرها المتناقضة تجاه جبريل ترى أن ائتلافه فاز على الإسلاميين، لأنه كان الخيار الأكثر تنوعًا، والصوت الأشد اعتدالاً بين القوى التي خاضت الانتخابات. ونقلت مجلة تايم عن القلال quot;إن للائتلاف إيديولوجيات مختلفة وتنظيمات مختلفة وشخصيات مختلفة. فهو ليس إيديولوجيا واحدة، ولعل هذا ما جعلهم جذابينquot;.

وأشار المسؤول الأجنبي في المنظمة غير الحكومية في طرابلس إلى أنه من المتعذر أيضًا إغفال الاعتراف الوطني الذي ناله جبريل بوصفه قائدًا خلال الثورة الليبية. وأضاف أن جبريل quot;كان رئيس الوزراء في زمن الحرب، وجر حلف الأطلسي إلى التدخلquot;، معتبرًا أن نجاح جبريل في تحشيد الدعم الدولي عندما كان الثوار بأمس الحاجة إليه، إنجاز ترك أثره في كثير من الليبيين.

ولكن يبقى من غير المعروف بالمرة كيف سيكون قوام البرلمان الجديد أو مدى قدرته على تشكيل حكومة توحّد البلد. وفي غياب الخبرة المحلية السابقة في الممارسة الديمقراطية وانتخاب العديد من النواب على أساس قبلي أو جهوي فإنه من المحتم أن يضم المجلس الجديد عشرات الأشخاص الذين لم تكن أولوياتهم ومواقفهم السياسية معروفة من قبل على المستوى الوطني.

كما أبدت القلال وكثيرون غيرها في مدينة بنغازي قلقهم من أن يكون بين هذه الأسماء عدد غير متناسب من فلول النظام السابق، الذين جرى انتخابهم على قائمة الائتلاف، الذي يقوده جبريل أو أن تركز الحكومة الجديدة على تنمية المنطقة الغربية مثلما فعل نظام القذافي.

وكان مثل هذا الخوف وراء الاحتجاجات والمقاطعة وحتى بعض الاشتباكات العنيفة في المنطقة الشرقية يوم الانتخابات وقبله. ويقول مراقبون إن الخوف نفسه سيكون على الأرجح وراء ما قد يحدث من أعمال عنف متقطعة في الأسابيع والأشهر المقبلة.

لكن مسؤولين في المفوضية الانتخابية يلفتون إلى النسبة العالية من المشاركة في الانتخابات، التي بلغت 65 في المئة ـ أعلى بكثير من نسبتها في مصر ـ فيما أكد مراقبون تابعوا سير الانتخابات أن العملية كانت عمومًا نزيهة. ونقلت مجلة تايم عن الأكاديمية هناء القلال وصفها الانتخابات بأنها تجربة ناقصة في الديمقراطية، quot;ولكنها في نهاية المطاف تبقى خطوة في الاتجاه الصحيحquot;.