خمسون عامًا من الفصل العنصري، أنتهت مع وصول نلسون مانديلا إلى السلطة، لكنها اتسمت بأقسى أنواع القهر الذي مورس ضد السود في بلادهم.

في خضم التغيرات الجذرية في العالم، والثورات التحررية، وانتشار موضة النضال والاحتجاج، كان العالم في كفة، وجنوب أفريقيا في كفة أخرى. فبين العامين 1948 و1994، كانت جنوب أفريقيا هي الدولة الوحيدة على الكرة الأرضية التي تقر سياسة quot;التنمية المنفصلةquot;، أي الفصل بين الأعراق، وتحديدًا بين السود والبيض، في نظام أقر الأبارتيد، الذي تمسك به الحزب الوطني في quot;بريتورياquot; التي كانت حينها عاصمة البيض الذين يتحكمون بمصير السود في جنوب أفريقيا.
كما الحيوانات!
والأبارتيد كلمة تتعدى حدود ما يحمله تعبير الفصل العنصري من معنى حرفي إلى ما يمكن أن يحمله من معاني التجرد من الانسانية، باعتبار السود بشرًا أقل من البيض، تخصص لهم البراري كما الحيوانات، بينما تخصص المطاعم والمتاجر وكوات البريد والمراحيض والشواطئ للبيض حصرًا، في استدعاء مقيت لما كان المستوطنون الهولنديون الاوائل يفعلونه في هذه البلاد حين نزلوا فيها، آتين من عالمهم المتمدن في القرن السابع عشر، أذ أول أمر أقاموه هنا كان سياجًا من اشجار اللوز يفصلهم عن سكان الأرض الاصليين، وإجبار هؤلاء على الحصول على تصريح خاص للتنقل في ما كان بالأصل أرضهم، اعتبارًا من العام 1797. وحين أنشئت حاضرة جوهانسبرغ، وغيرها من الحواضر، ما بعد العام 1886، أجبر السود على التنحي عن مساقط رؤوسهم quot;لأسيادهم البيضquot;، لينتحوا احياء بائسة على اطراف المدن، تمامًا كأحزمة البؤس التي ما تزال موجودة في بعض الدول النامية حتى اليوم.
ويحكى أن المهاتما غاندي، قبل أن يكون مهاتما، زاول مهنة المحاماة في جنوب أفريقيا لأكثر من قرنين من الزمن،فذاق مرارة تجربة نظام الفصل العنصري شخصيًا في العام 1893، حين جلس في عربة الدرجة الأولى، فطرد منها شر طرد لأنها مكان البيض لا غيرهم، أي مكان يستحقه الأفريكان، أحفاد المستعمرين الهولنديين، وحدهم.
ولادة المؤتمر
في العام 1910، كانت ولادة دولة جنوب أفريقيا، حين اتحد الانكليز المستعمرين الجدد، والأفريكان, وكان من بنود الاتحاد استبعاد السود وتجاهلهم والاكتفاء باستعبادهم لا أكثر. وأسند البريطانيون السلطة لـ quot;البويرquot; الهولنديين والمستوطنين البيض البريطانيين. أتى الرد الأسود بولادة حزب المؤتمر الوطني الافريقي، الذي أخذ على عاتقه المناداة بحق السود في العيش بسلام وكرامة على أرضهم وأرض أجدادهم، والذي تولى نلسون مانديلا قيادته لاحقًا. فقد كان على الأفارقة السود أن يبحثوا سبل الدفاع عن أرضهم وحريتهم. في العام 1911، وجه بيكسلي كا إيساكا سيم نداءً إلى الأفارقة ودعاهم إلى تناسي خلافات الماضي في ما بينهم، والاتحاد في منظمة وطنية واحدة. وفي 8 كانون الثاني (يناير) 1912، اجتمع رؤساء وممثلون عن المجتمعات الإفريقية وممثلون عن منظمات كنسية وغيرهم من الشخصيات البارزة في بلومفونتين، واسسوا المؤتمر الوطني الأفريقي، وهدفه توحيد الأفارقة ليكونوا شعبًا واحدًا يدافع عن حقوقه وحريته.
بين العامين 1912 و1948، انتهج المؤتمر الوطني الأفريقي مع السلطة العنصرية منهج الحوار، إذ آمنت قيادة المؤتمر بإنسانية البيض وإمكان الوصول إلى تسوية عادلة عن طريق الإقناع. لكن النظام العنصري واصل سياسة اقتلاع السود ونزع ملكياتهم. ولم يتمكن المؤتمر من منع تبني سلسلة قوانين تعزز الفصل العنصري، وبينها منع السود من شراء اراض خارج المحميات الفقيرة والضيقة، ومن مزاولة بعض المهن.
قوانين عنصرية
في العام 1948، فاز الحزب الوطني الذي يجاهر بعنصريته وبمنطق حماية مصالح الافريكان من الخطر الاسود، الذي اختلط سريعًا بالخطر الاحمر الشيوعي في أجواء الحرب الباردة. فتعاطف الغرب طبيعيًا مع نظام الفصل العنصري، بينما سلكت دول افريقيا طريق الخلاص من الاستعمار بحركات تحررية وصلت إلى السلطة منتهجةً نظامًا اشتراكيًا.
تعاظمت الاجراءات العنصرية، حتى كان أول قانون في العام 1949 يمنع الزواج بين الاعراق، وقانون آخر يمنع العلاقات الجنسية بين اشخاص من أعراق مختلفة في العام 1950، تم تنفيذه من خلال قانون آخر هو قانون تسجيل السكان، الذي صنف سكان جنوب أفريقيا في أربعة أعراق بحسب لون البشرة، هي البيض والهنود والخلاسيون والسود، وحدد كل أوجه حياتهم من المهد حتى اللحد. ثم أتى قانون
السكن المنفصل الذي سمي بقانون مناطق المجموعات، ليصبح الفصل العنصري سائدًا في كل شبر في جنوب أفريقيا، لتزال أحياء عن بكرة أبيها، مثل صوفيا تاون في جوهانسبرغ، والمنطقة السادسة في الكاب، من أجل إبعاد السود إلى مدن صفيح نائية، لا من يراهم ولا من يسأل عن أحوالهم، بعد طرد نحو 3,5 ملايين شخص ومصادرة أملاكهم ومزارعهم، ومنحها إلى مواطنين بيض.
تصريح مرور
اعتقد السود أن مدن الصفيح هذه ستأويهم، لكنها لم تكن إلا حلًا موقتًا، قبل عزل السود بجنسيات بحسب إثنيتاتهم، ليصيروا غرباء في بلادهم، عليهم دائمًا حمل quot;تصريح مرورquot; حين يمرون بشوارع البيض يثبت أن لديهم عملًا في مناطق لا يحق لهم السكن فيها أو المرور. وفي منعزلاتهم، تلقى أطفال السود وأولادهم تعليمًا بدائيًا، لم يكن ليؤهلهم أن يتبوأوا اي وظيفة، لأن المطلوب كان استبعادهم تمامًا عن الحياة العامة، أو استعمالهم كعمالة يدوية رخيصة الثمن كحد أحدنى. وهذا الحد الأدنى هو الذي منع البيض من إبادة السود تمامًا أو إجبارهم على الرحيل عن جنوب أفريقيا.
لم يسكت السود عما يحل بهم من كوارث بيضاء، فأعلنوا حملة التحدي في العام 1955، ثم قاموا بعصيان مدني، بقيادة المؤتمر الوطني الافريقي، رافقه تحول بعض أقسام المعارضة السوداء إلى العمل المسلح، الذي رفضه المؤتمر ومانديلا. وتعاظمت ضغوط الاسرة الدولية على جنوب افريقيا بسبب نظامها العنصري، فوضعت عليها العقوبات الاقتصادية، ما دفع بريتوريا إلى إلغاء القوانين العنصرية تدريجًا اعتبارا من ثمانينات القرن الماضي، إلى أن زالت العنصرية من البلاد مع أول انتخابات متعددة الاعراق في العام 1994، أوصلت مانديلا الى السلطة.