أدلى الفيلسوف الفرنسي آلان فينكيلكراوت من خلال كتابه الجديد quot;الهوية الحزينةquot;، بدلوه فيما تواجهه فرنسا من أزمة هوية بين من يسميهم الفرنسيين الأقحاح والمهاجرين. واعترف فينكيلكراوت بوجود صدام الحضارات وأن للمسلمين دور فيه.


عبد الإله مجيد من لندن: يعتبر الفيلسوف الفرنسي آلان فينكيلكراوت من أكثر المفكرين الفرنسيين إثارة للجدل.

فجر كتابه الجديد quot;الهوية الحزينةquot; سجالا ما زال محتدما في الأوساط الفكرية.

وصدر الكتاب في وقت تواجه فرنسا أزمة هوية، لكن فينكيلكراوت بدلا من اعتماد منظور اجتماعي أو سياسي في صوغ افكاره يستطلع ما يقول انه مواجهة عدائية بين الفرنسيين الأقحاح والمهاجرين.

النمط الفرنسي مُهدّد

حين سُئل فينكيلكراوت عما إذا كان راضيا عن فرنسا اليوم أجاب quot;يؤلمني أن ارى النمط الفرنسي للحضارة الاوروبية مهدداquot;.

واضاف quot;ان فرنسا تمر بعملية تحول الى مجتمع ما بعد قومي ومتعدد الثقافات ويبدو لي ان لا خير في هذا التحول الكبيرquot;.

التعددية لا تعني quot;التوليفquot;

وعن اسباب اعتراضه على تحول فرنسا الى مجتمع واعد بتجاوزه القومية وبتعدده الثقافي قال فينكيلكراوت في حديثه لمجلة شبيغل اونلاين، ان هذا المجتمع quot;يُقدَّم لنا على انه نموذج للمستقبل ولكن التعددية الثقافية لا تعني التوليف بين الثقافات بل يسود عدم الثقة وتتفشى النزعة الجماعاتية، وتتشكل مجتمعات موازية تتباعد باستمرار عن بعضها البعضquot;.

وذهب فينكيلكراوت الى ان الشرائح الدنيا من الطبقات الوسط أوquot;الفرنسيين الذين لم يعد احد يجرؤ على تسميتهم quot;الفرنسين الإثنيينquot; أخذوا يغادرون الضواحي الباريسية ويهاجرون الى الريف. فهم وجدوا انهم في بعض الأحياء أقلية في بلدهم. انهم لا يخافون الآخرين لكنهم يخشون أن يصبحوا هم أنفسهم آخرينquot;.

المهاجرون والهوية الفرنسية

وردا على الرأي القائل ان فرنسا كانت دائما بلد مهاجرين قال فينكيلكراوت: quot;يُقال لنا باستمرار ان الهجرة عنصر من العناصر المكونة للهوية الفرنسية ولكن هذا ليس صحيحا. فان هجرة الأيدي العاملة بدأت في القرن التاسع عشر ولم تُفتح الحدود أساسا إلا بعد مجزرة الحرب العالمية الأولىquot;.

وتابع فينكيلكراوت قائلا quot;ان الهجرة كانت تمضي متساوقة مع الاندماج بالثقافة الفرنسية. وتلك كانت قواعد اللعبة، وكثيرون من الوافدين الجدد لم يعودوا يريدون اللعب وفق هذه القواعدquot;.

أسلمة اوروبا

وتساءل فينكيلكراوت quot;إذا كان المهاجرون أغلبية في احيائهم كيف نستطيع دمجهم؟ كانت هناك زيجات مختلطة، وهي عامل حاسم في التخالط العرقي ولكن عدد هذه الزيجات يتناقص وكثيرا من المسلمين في اوروبا يعيدون أسلمة أنفسهم. والمرأة التي تتحجب تُعلن عملياً ان اقامة علاقة مع غير مسلم غير واردة بالنسبة لهاquot;، على حد قول فينكيلكراوت.

اليسار وصدام الحضارات

وعن استبعاد المهاجرين عموما من التيار الرئيسي للمجتمع لأسباب اقتصادية اساسا قال فينكيلكراوت quot;ان اليسار أراد ان يحل مشكلة الهجرة بوصفها قضية اجتماعية واعلن ان اعمال الشغب في الضواحي شكل من اشكال الصراع الطبقي. ويُقال لنا ان هؤلاء الشباب يحتجون على البطالة واللامساواة واستحالة الارتقاء في المجتمع. وفي الواقع اننا شهدنا انفجار العداء تجاه المجتمع الفرنسي. فاللامساواة الاجتماعية لا تفسر معاداة السامية ولا كره المرأة في الضواحي أو الاهانة المتمثلة بعبارة quot;الفرنسيين القذرينquot;. ان اليسار لا يريد التسليم بأن هناك صدام حضاراتquot;، بحسب فينكيلكراوت.

الهجرة والبطالة

يرى كثيرون ان البطالة سبب من اسباب غضب هؤلاء الشباب الذين يديرون ظهرهم للمجتمع لشعورهم بالاغتراب فيه واقصائهم منه. ولكن فينكيلكراوت جادل قائلا quot;إذا كانت البطالة عالية الى هذا الحد فمن باب اولى ضبط الهجرة بصورة اشد فاعلية. إذ يبدو ان فرص العمل لا تكفي للجميع ولكن اسألوا المعلمين في هذه الضواحي. فهم يواجهون مصاعب كبيرة في تعليم أي شيء. وبالمقارنة مع مغني الراب وتجار المخدرات فان رواتب المعلمين مضحكة في ضآلتها حتى انهم يُنظر اليهم بازدراء. فلماذا يجتهد الطلاب لكي يحذوا حذوهم؟ هناك عدد كبير من الشباب الذين لا يريدون ان يتعلموا أي شيء عن الثقافة الفرنسية. وهذا الرفض يجعل من الصعب عليهم ان يجدوا فرصة عملquot;ن بحسب فينكيلكراوت.

وحين سُئل فينكيلكراوت عما إذا زار بنفسه هذه الأحياء التي يتكلم عنها قال انه يتابع الأخبار ويقرأ الكتب والدراسات.

الاستثناء الأميركي

وتطرق فينكيلكراوت الى الولايات المتحدة حيث لا يوجد لدى الاميركيين هذا التمسك الاوروبي بثقافة اوروبية احادية.

وقال في هذا الشأن quot;ان الولايات المتحدة تعتبر نفسها بلد مهاجرين والمثير للاعجاب في هذا المجتمع متعدد الثقافات حقا هو قوة روحه الوطنية.

وتبدى هذا بصفة خاصة بعد هجمات 11 ايلول/سبتمبر 2001.

ولكن في فرنسا يمكن ان نرى نقيض ذلك بعد الهجمات التي استهدفت جنودا فرنسيين ويهودا في تولوز وموتباون العام الماضي.

فان بعض تلاميذ المدارس اعتبروا المهاجم محمد مراح بطلا. وأمر كهذا لا يمكن حتى ان يخطر ببال في الولايات المتحدة. فالمجتمع الاميركي وطن للجميع ولا أعتقد ان كثيرا من أطفال المهاجرين هنا ينظرون هذه النظرةquot;.

قضايا المسلمين

وعما إذا كانت فرنسا تضع حواجز عالية بوجه الوافدين قال فينكيلكراوت quot;ان فرنسا تمنع الطالبات من ارتداء الحجاب في المدارس وهذا لفائدة المسلمين كافة الذين لا يريدون قفصاً دينياً يحبسون فيه أنفسهم وبناتهم وزوجاتهم. ان فرنسا حضارة والسؤال هو ما يعنيه ان تشارك في هذه الحضارة. هل يعني هذا ان على أهل البلد الأصليين ان يجعلوا أنفسهم في منتهى الصغر ليتمكن الآخرون من الانتشار بسهولة؟quot;

وتناول فينكيلكراوت ما سماه quot;كل هذه العدوانية تجاه الغرب في العالم الاسلاميquot; قائلا quot;ان البعض يقول ان فرنسا كانت قوة استعمارية ولهذا السبب لا يمكن لمن كانوا مستعمَرين ان يشعروا بالرضا. وما زال يتعين على فرنسا ان تدفع الثمن عن آثام الاستعماروان تسدد دينها لاولئك الذين يذمونها اليومquot;.

الولاء للتعليم

وأكد فينكيلكراوت انه يدافع عن هذه القيم لأنه يدين لتعليمه أكثر مما يدين لكونه quot;فرنسيا إثنياquot; مشيرا الى انه لم يرضع التقاليد الفرنسية والتاريخ الفرنسي في المهد.

وذهب الى ان اصوله وانتماءه الى عائلة مهاجرة تتيح له ان يتكلم ويكتب بصراحة أكبر من الآخرين لأنه ليس فرنسيا عن أب وجد.

وفيما يتعلق بالحضارة الفرنسية التي يتحدث عنها وتعريفه لها قال فينكيلكراوت quot;قرأتُ كتابا للمؤلف الروسي الرائعاسحاق بابل. تجري القصة في باريس. الراوي في فندق وفي الليل يسمع رجلا وامرأة في الغرفة المجاورة يمارسان الجنس.

ويكتب بابل ان هذا لا يمت بصلة الى ما يسمعه المرء في روسيا بل انه أشد التهابا بالعاطفة.

فيرد صديقه الفرنسي قائلا quot;نحن الفرنسيين صنعنا المرأة والأدب والمطبخ ولا يمكن لأحد ان يأخذ هذا مناquot;.

وأكد فينكيلكراوت ان هذه ليست كليشهات مثالية تصنعها الشعوب لأنفسها بل حقيقة quot;أو على الأقل كانت حقيقة في السابقquot;.

ثورة 1789 والعلمانية

حين سُئل فينكيلكراوت عما إذا كانت الهوية الفرنسية ما زالت مجبولة بمبادئ ثورة 1789 قال انه في عام 1989 ، بمناسبة مرور 200 عام على الثورة، وقَّع مذكرة quot;ضد الحجاب الاسلاميquot; مؤكدا ان المسألة عنده كانت تتعلق بمفهوم العلمانية quot;التي تتعرض للانتقاد في انحاء العالم هذه الأيامquot;.

ولاحظ ان فرنسا quot;كانت تعتقد في تلك الأيام ان هذا نموذج للعالم، ويجري اليوم تذكيرها بتميزها. المسألة لم تعد مسألة تصدير نموذجنا بل علينا ان نبقى متواضعين ولكن ثابتونquot;.

مسلمون أوروبيون !

ورفض فينكيلكراوت تهمة استخدام العلمانية لا ستهداف الاسلام قائلا quot;ان فرنسا منعت النقاب ولم تمنع الفرد وفي السابق كان يُطلب من التلميذات إخفاء صلبانهن أو قلائد تحمل صورة مريم العذراء تحت ثيابهن. ولم يكن ذلك طلب الكثير بل القليل من ضبط النفس من الجميع. وهذا لا يمت بصلة الى اعتداء على الاسلامquot;.

وقال فينكيلكراوت quot;ان الاسلام قد ينتمي الى اوروبا ذات يوم ولكن بعد quot;اوربةquot; نفسه وليس إهانة للآخرين ان يُشار الى آخريتهم.

والمهاجرون لا يفقدون شيئا عندما يعترفون باختلافهم عن السكان الأقحاحquot;.

ولاحظ quot;ان المسلمين في فرنسا اليوم يحبون ان يصرخوا في فعل من أفعال تأكيد الذات قائلين quot;نحن لا نقل فرنسية عنكم! وما كان ليخطر على بال والديّ ان يقولا شيئا كهذا. وأنا ايضا لن اقول ابداً إني فرنسي بقدر ما كان شارل ديغول فرنسياquot;.

وذهب فينكيلكراوت الى ان الحق التلقائي في الجنسية الفرنسية لمن يولد على أرض فرنسية يجعل الكثير من الفرنسيين لا يشعرون بالارتياح هذه الأيام وان لدى الفرنسيين ، مثلهم مثل غالبية الاوروبيين ، احساسا بأن الهجرة اصبحت عملية خارجة عن السيطرة.

تحديات أمام فرنسا

وعن رأيه بمن يسمونه رجعيا قال فينكيلكراوتquot;ان من المتعذر النظر الى التاريخ على انه تقدم دائم وأحتفظ بامكانية المقارنة بين الأمس واليوم وطرح السؤال: ما الذي نُبقي عليه وما الذي ننبذه؟quot;

وتابع quot;انا مثل البير كامو أرى ان مهمة جيلنا ليست إعادة خلق العالم بل منع انحطاطه ولا يتعين ان نحافظ على الطبيعة فقط بل على الثقافة ايضاquot;.

وقال فينكيلكراوت انه يشعر بالحزن والقلق إزاء مشاكل فرنسا من ديون وبطالة وأزمة تعليم وأزمة هوية quot;وان التفاؤل يبدو مثيرا للسخرية بعض الشيء هذه الأيام. واتمنى لو كان بمقدور السياسيين ان يقولوا الحقيقة وينظروا الى الواقع وجها لوجه. حينذاك اعتقد ان فرنسا ستكون قادرة على صحوة حقيقية لانتهاج سياسة متحضرةquot;.