الفارق الفرنسي شاسع بين أفغانستان الأمس ومالي اليوم، حيث كانت بأمرة أميركية في كابول، بينما هي الآمرة الناهية في الحملة على الساحل الأفريقي. كما أن الدروس العسكرية التي تعلمها العسكر الفرنسي في الحرب مع الأفغان تعينه في حربه البرية اليوم.

ما تزال فرنسا في أفغانستان، التي دخلتها محاربة الإرهاب في العام 2002. وهي اليوم في مالي، وما زال الوقت مبكرًا لتحديد موعد خروجها، من ذا البلد ومن ذاك. لكن الفارق كبير بين فرنسا في كل من البلدين.
في أفغانستان، كانت باريس جنديًا بأمرة القائد الأميركي الأعلى، الذي تزعم حرب العالم على تنظيم القاعدة ونظام ملالي طالبان في كابول وأنحاء إمارتهم الأفغانية. حتى أن الجنود الفرنسيين لم يجدوا فرصة تماس مباشر مع متشددي طالبان وإخوانهم إلا بعد أربعة أعوام من ابتداء الحرب الكونية على الارهاب في آسيا الصغرى.
في مالي، باريس هي القائد وصف الضابط والجندي. هبت لإنقاذ مالها من براثن المارة الاسلامية التي توشك أن تتشكل وأن تمد جذورها في المغرب العربي، وأن تحرم فرنسا لقمتها من اليورانيوم والماس والنفط.
لزامٌ أخلاقي
لم ينتظر فرانسوا هولاند إيماءة باراك أوباما ولا غيره، بل بادرت باريس إلى العمل العسكري منفردة، بسبب ما تراه مسؤولية ملقاة على عاتقها في منطقة الساحل الأفريقي، موروثة من صداقات حافظت عليها وليس من ماض استعماري تحاول باريس التملص من تبعاته، وكذلك مشيًا على عادة اكتسبتها من تدخلها في ليبيا لإزاحة نظام العقيد معمر القذافي عن كاهل العالم الحر، كما يصور مراقبون أوروبيون المسألة من منظار فرنسي، انتقل إرثًا من نيكولا ساركوزي إلى هولاند.
لم يُكنّ الفرنسيون كثير محبة للقذافي، لكنه كان بشهادتهم قادرًا على الامساك بشمال أفريقيا بيد من حديد، كي لا تغدو كما هي الآن مرتعًا لجهاديي العالم وإمارةً يسعون لإنشائها.
أما وقد غرق الساحل الأفريقي، وبعض الصحراء أيضًا، في خضم الفوضى الجهادية، ترى باريس لزامًا أخلاقيًا عليها أن تعيد إليه استقراره، مستوحية دروسًا في المجابهة من تجربة في أفغانستان، يصفها المراقبون بالبريئة والفتية، إذ في نظرهم لا كثير شبه بين أفغانستان ومالي إلا في أن التشدد الاسلامي سمة العدو الأساسية، وفي أن الحرب خطيرة بالرغم من عدم التكافؤ بين الجانبين.
لا هزيمة بل فشل
حين يبحث المراقبون الفرنسيون عن صفات لمعاركهم العسكرية في أفغانستان، يمرون على تعبير quot;الانتصارquot; مرور الكرام. فبين كابول وجلال أباد اليوم من مسلحي طالبان أكثر مما كان في أفغانستان قبل عشرة أعوام.
ويتجنب هؤلاء المراقبين وصف المسألة بالهزيمة، لأن ثمة فوزًا تحقق، بشكل أو بآخر، كتشتيت الطالبانيين ردحًا من الزمان. ولذلك، يستقرون على وصف تجربة فرنسا الأفغانية بالتجربة الفاشلة، لأن الحملة أصلًا لم تأت إلا بالفشل، حتى أنها فشلت في تحقيق ما طلبه مؤتمر بون، المنعقد في كانون الأول (ديسمبر) 2001، عشية الحرب، أي إعادة إعمار أفغانستان، وتنميتها، ووضعها على صراط الديمقراطية المستقيم.
حتى أن محللين سياسيين أميركيين يتساءلون: quot;وما يمكن أن تعنيه مسائل كإعادة الاعمار والتنمية والحث على الديمقراطية في بلد يعشش فيه الجهل، ويسيطر الاسلاميون على نحو 70 بالمئة من مساحته، ويحكمه حامد كرزاي على رأس أكثر الدول فسادًا في العالم؟quot;
دروس وعبر
قد لا تكون الدروس السياسية من معارك أفغانستان مفيدة كثيرًا في مالي، لكن الدروس العسكرية فمفيدة.
يقول خبراء استراتيجيون فرنسيون أن الألوية الفرنسية المحاربة في منطقة الساحل الأفريقي مرّت بمعمودية النار الأفغانية، وهي تعرف تمام المعرفة قدرات المجموعات الاسلامية المقاتلة، ولن تستخف بها، بل ستأخذها دومًا على محمل الجد. كما أن الغطاء الاستطلاعي الجوي متوافر لها، ولن تقع في مكامن فتاكة كتلك التي أودت بحياة العشرات من الجنود الفرنسيين في أفغانستان.
ويضيف هؤلاء الخبراء أن القيادة الفرنسية تعرف أن مقاتلي تنظيم القاعدة في المغرب الاسلامي لا تنقصهم الخبرة أبدًا، وهم اكتسبوها من مشاركتهم في حروب أفغانستان والعراق وليبيا، وقادرون على الاختباء من عيون طائرات الاستطلاع، ولن يقفوا عرضة لنيران المقاتلات الفرنسية كما وقفت أرتال دبابات جيش القذافي على أبواب بنغازي ليدمرها طيران الأطلسي بلمح البصر. لذا لم يكن من مفر أمام باريس إلا اتخاذ قرار الدخول في المعركة بقواتها البرية.
ميزة لصالح المتشددين
تدرك باريس كل الادراك أن القضاء على المتشددين الاسلاميين في مالي ليس نزهة أبدًا. فهؤلاء لا يعتمدون المواجهات المباشرة، بل يعتمدون حرب العصابات التي تمكنهم من الاختباء بين المدنيين، ولو أدى ذلك إلى التضحية بهؤلاء الأبرياء، بحسب ما يقول ضباط فرنسيون على اطلاع واسع بالعمليات العسكرية في مالي.
يضيف أحدهم: quot;هذه ميزة لصالحهم، فالجيش الفرنسي يعجز عن اتخاذ قرار غير إنساني باستخدام المدنيين دروعًا واقية، كما أن الأوامر صارمة للجندي الفرنسي يالمحافظة على حياته إلى أقصى الحدود، بينما لا يهتمون لحياتهم، طالما أنهم يؤدون واجبهم الديني بتنفيذ عمليات إنتحاريةquot;.
همّ الفرنسيين اليوم الاسراع في تسليم لواء الحرب على القاعدة في المغرب الاسلامي للقوات الأفريقية، تخفيفًا من أكلاف الحرب أولًا، ومن الخسائر في الأرواح الفرنسية ثانيًا.
فالقادة الاستراتيجيون الفرنسيون استخلصوا من العبر الأفغانية اثنتين مهمتين، أولهما أن المقاتلات أعجز من أن تحقق نصرًا على مسلحين يعتمدون حرب العصابات، وثانيهما أن القوات البرية لا يسعها أبدًا إحياء حضارة انهارت. ولهذا، تكرر فرنسا بلا هوادة أن حملتها المالية ليست في اي شكل من الأشكال رجعة إلى مهمة نشر التحضّر عن طريق الاستعمار، وأنها تسعى للخروج من هذا البلد سريعًا.