اعتقل محمد مرة، واعتقل أبوه عندما اختفى عن عيون شبيحة نظام الأسد بين المتظاهرين، وتعرضا للضرب المبرح، فهاجرت العائلة إلى الأردن، لتنضم إلى سوريين نازحين لا يرسم أطفالهم سوى الجثث ولا يلونون إلا بالأحمر القاني.


كما في الحكاية المعروفة، الأطفال السوريون هم الذين كشفوا عن وجه الدكتاتور الكالح عندما لاحقهم لقولهم الحقيقة، إذ بدأت الانتفاضة السورية في آذار (مارس) 2011 بتظاهرة تلاميذ في درعا جنوبي سوريا مطالبين بالحرية، وكانوا أطفالًا في الصف السابع مثل محمد الذي لم يشفَ حتى الآن من آثار التعذيب الذي تعرض له.

ما زال وزن محمد الذي انضم إلى آلاف مثله من الأطفال اللاجئين في الاردن أقل من 45 كيلوغرامًا، ويصعب تخيله في مشاجرة مع تلميذ آخر ناهيكم عن تحديه طاغية يحكم 25 مليونًا بالحديد والنار. وذهب سوريون ومتعاطفون مع محنتهم إلى حد الأمل بأن توقظ شجاعة هؤلاء الأطفال ضمير الأقوياء في العالم الذين أشاحوا منذ عامين ونصف العام بأنظارهم عن الكارثة الانسانية المستمرة في سوريا.

ولم يكن محمد بين المجموعة الأولى من الأطفال التي كتبت شعارات معادية للنظام على احد الجدران في درعا، فردت السلطة باعتقالهم وتعذيبهم. وأثار هذا العمل الوحشي غضب الأهالي الذين نزلوا إلى الشوارع ومعهم محمد، للمطالبة بالافراج عن الأطفال المعتقلين.

وفتحت قوات النظام نيران اسلحتها على المتظاهرين، واعتقلت عددًا منهم بينهم محمد. وتعرض محمد الذي كان في الحادية عشرة من العمر وقتذاك إلى الضرب بعصي من المطاط. ويتذكر محمد أنه لم يعطِ اسم أي من زملائه الناشطين الأطفال، بالرغم من الضرب المبرح على باطن قدميه.

أعدم لاحقًا

بعد اربعة ايام، دفع عدنان والد محمد رشوة تعادل 1000 دولار مقابل الافراج عن ابنه. وقال والدا محمد لصحيفة نيويورك تايمز إنهما حذراه من التظاهر لأن نشاطاته يمكن أن تكلف اباه وظيفته. لكن محمد لم يستمع لكلام الوالدين، واحتفل بعيد ميلاده الثاني عشر مواصلًا الاحتجاج في درعا. وفي احدى التظاهرات، اعتقلته الشرطة وانهال عليه احد جلاوزة النظام ضربًا بعقب البندقية مهشمًا ركبتيه.

وعالج الطبيب كاظم بايزيد محمد وغيره من المصابين على أيدي قوى أمن النظام، وقالت عائلة محمد إن شبيحة النظام اعدموا الدكتور بايزيد لعلاجه المحتجين. وبعد اخلاء سبيل محمد برشوة، واجه تحديًا آخر لا يمت بصلة إلى مقارعة النظام، هو حضور الامتحانات النهائية للصف السابع من دون أن يتعرض للاعتقال. وتعاطف معه مدير مدرسته فدبر له المشاركة سرًا في الامتحانات، وأكدت عائلة محمد لصحيفة نيويورك تايمز أن المدير أُعدم لاحقًا.

وعند هذا الحد، توقفت العائلة عن محاولة اقناع ابنها بعدم التظاهر، وقال والده عدنان: quot;هنا بدأنا نقف مع ابنناquot;. وعندما لم تتمكن قوى الأمن من العثور على محمد لاعتقاله مرة أخرى، عاقبت والديه بحرق منزل العائلة وفيه كل ممتلكاتها، واعتقلت الأب الذي قال إن المحققين علقوه من رسغيه تسعة ايام وكسروا ذراعه وعددًا من اضلاعه وعذبوه بصدمات كهربائية.

لا رسم غير الجثث

ما ساعد عدنان على الامتناع عن البوح بمكان وجود ابنه محمد مصير الطفل الدرعاوي الآخر حمزة علي الخطيب (13 عامًا). فعندما أُعيدت جثة حمزة إلى أهله، كانت عليها آثار حروق وتمثيل جنسي وكانت ركبتاه مهشمتين.

وبعد ستة اسابيع من التعذيب دون أن يتمكن الجلادون من كسر حب عدنان لابنه وانتزاع معلومات عن مكان اختفائه، أُفرج عن الأب وهربت العائلة إلى الاردن. وتتولى لجنة الانقاذ الدولية الآن العناية بعائلة محمد التي لديها وثائق طبية تؤكد تعرض محمد ووالده عدنان لتعذيب ما زالا يعانيان من آثاره.

واليوم محمد واحد من نحو مليون طفل سوري لاجئين في الخارج، بحسب ارقام الأمم المتحدة. وانقطع محمد عن الدراسة مثل غالبية هؤلاء الأطفال بسبب ظروفهم المعيشية الصعبة. وحذر خبراء من أن اطفالًا مثل محمد بلا تعليم وبلا مهارات، سوف يشكلون جيل سوريا الضائع.

وقالت الطبيبة النفسية في لجنة الانقاذ الدولية الدكتورة ندى رضوان إنها حاولت طرقًا علاجية مع الأطفال، لكنهم يرفضون أن يرسموا غير الجثث. وعرضت الطبيبة بعض الرسوم التي كانت بقنابلها ولون الدم الطاغي عليها بمثابة نافذة مفتوحة على عقول اطفال حرمهم النظام من مخيلة الطفولة البريئة.