في أوروبا 12 مليون غجري، عاشوا فيها منذ أكثر من 1000 عام، وتعرضوا طيلة قرون للعزل والاضطهاد والقهر. وهم الآن أكبر الأقليات في اوروبا، وما زالوا سكانها المنبوذين.


بعد 70 عامًا على انتهاء الحقبة النازية، أزاحت المستشارة الالمانية انغيلا ميركل في العام 2012 الستار عن نصب تذكاري للغجر من ضحايا المحرقة. لكن السجال الذي أثاره حزب الاتحاد المسيحي الاجتماعي، شريك حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي بزعامة ميركل، حول من يُسمون quot;مهاجري الفقرquot; القادمين من بلغاريا ورومانيا، يحتدم في دول اوروبية أخرى، ويبين أن المواقف المتحاملة القديمة ضد الغجر ما زالت قائمة في انحاء اوروبا.

وتذهب الصورة النمطية عنهم إلى أن الغجري الأسمر يغني ويسرق، لا يُلبِس اطفاله الأحذية، ويحب العيش في القذارة. فهذه هي تقاليدهم، بحسب القالب النمطي في تصوير الغجر.

ورغم وجود اقليات غجرية في دول غربية مثل المانيا وفرنسا واسبانيا، فإن احدًا لم يهتم بأحوالهم. ولا يسأل احد عن الغجر في جنوب القارة الاوروبية، ولم يلتفت أحد إليهم إلا بعد أن بدأت أعداد متزايدة منهم تهاجر من بلغاريا ورومانيا وتضاعَف عدد طالبي اللجوء القادمين من صربيا ومقدونيا مرتين من 2011 إلى 2012، بحسب مجلة شبيغل اونلاين.

وأراد وزير الداخلية الالماني حتى الآونة الأخيرة هانز بيتر فريدريش التخلص من هؤلاء المهاجرين بأسرع وقت ممكن ومنع تدفق المزيد منهم إلى المانيا. وطالب الدول القادمين منها بتحسين ظروف معيشتهم عسى أن يبقوا فيها.

أحياء فقيرة

زيارة واحدة إلى منطقة انتينا على أطراف العاصمة الصربية بلغراد تكفي لتكوين فكرة عن التحسينات المطلوبة في بلغاريا ورومانيا وصربيا. فإن بيوت المنطقة بلا ماء والمرحاض حفرة في الأرض والهواءتفوح منهرائحة البول والعفن والبلاستيك المحروق.

في هذه المنطقة يعيش راميز (28 عامًا) مع 600 غجري آخر. وابتاع راميز مقابل 40 يورو رقعة ارض مساحتها ثمانية امتار مربعة من مكب للنفايات اقام عليها كوخه. وقال إن الغجر هم quot;سكان بلغراد غير المرئيينquot;. فنصف سكان منطقة انتينا بلا جواز سفر أو شهادة ميلاد، وهم غير موجودين بنظر الحكومة الصربية، ولا يحصلون على المساعدات من برامج الرعاية الاجتماعية. وانتقل غالبية غجر انتينا اليها، كما فعل راميز، خلال حرب كوسوفو في نهاية التسعينات، وهم يحلمون بالوصول إلى الغرب الغني بأسرع وقت ممكن.

نهارًا، يقوم راميز واطفاله بجمع الورق المقوى أو النبش في النفايات بحثًا عن علبة حساء انتهت صلاحيتها أو علبة من مسحوق الكاكاو أو بقايا حبوب. ويحمل راميز في جيبه بطاقة اعطاها له رجل مهنته تهريب البشر بلا اوراق ثبوتية عبر الحدود شمالًا.

وتكلف عملية النقل 100 يورو ورشوة حراس الحدود 400 يورو. ويأمل راميز بحشد عدد من الزبائن بحيث يعفيه المهرب من هذه التكاليف ويهربه مجانًا. ومنطقة انتينا واحدة من عدة مناطق كهذه في بلغراد، وهناك مئات مثلها في صربيا وآلاف في بلدان أوروبا الشرقية الأخرى.

إعتداءات عنصرية

لكن الغجر لا يريدون الهرب بسبب الفقر وحده، بل يريدون الافلات من التمييز والاضطهاد ايضًا. ففي رومانيا، دعت منظمة يمينية متطرفة أخيرًا إلى تعقيم النساء الغجريات، وشهدت بلغاريا العام الماضي تظاهرات معادية للغجر في العاصمة صوفيا. وفي العام 2012، نزل متظاهرون غوغائيون إلى الشارع في جمهورية التشيك يطالبون بإبادة الغجر في غرف الغاز.

ويؤكد ناشطون حقوقيون أن وضع الغجر عصيب في المجر. وقال غابور داروتشي، الذي يدير مؤسسة تمول مشاريع تربوية وتعليمية للغجر: quot;يتعرضون منهجيًا للتمييز، فهم لا يستطيعون إيجاد فرص عمل، واطفالهم لا يتلقون أي تعليمquot;.

وفي آب (اغسطس)، الماضي أُدين ثلاثة اشخاص بتهمة قتل ستة غجريين بدافع الكراهية العنصرية. ويحرض مسؤولون في الحكومة اليمينية المجرية برئاسة فكتور اوربان علنًا ضد الغجر. وقال سولت باير، أحد مؤسسي الحزب الحاكم في المجر ومستشار رئيس الوزراء، إن غالبية الغجر ليسوا مؤهلين للحياة الاجتماعية، فهم يريدون سرقة كل من يرونه، وإذا واجهوا مقاومة يقتلونquot;.

ونقلت مجلة شبيغل اونلاين عن باير قوله: quot;هؤلاء الغجر حيوانات، يتصرفون كالحيوانات، ويجب ألا يبقوا، ويتعين ايجاد حل بأي وسيلةquot;.

تحديد نسلهم

في آذار (مارس) 2011، احتل متطرفون يمينيون قرية غيونغيوشباتا شمال شرقي العاصمة بودابست لمدة اسابيع، اعتدوا خلالها على غجر القرية في الشوارع من دون أن تتدخل الحكومة ضد العنصريين. وفي النهاية تحركت قوات الشرطة وغادر العنصريون والنازيون الجدد، لكن حياة الغجر في القرية لم تتحسن.

ويحكم القرية حزب يميني متطرف يطالب بتحديد نسل الغجر ويرتبط بميليشيات نازية جديدة أرهبت الغجر. وتفرض الشرطة المجرية غرامة على الغجري الذي يسير في الشارع بدلاً من الرصيف. وأفادت تقارير بأن لأطفال الغجر في مدارس القرية صفوفًا في طابق منفصل من مبنى المدرسة.

وإزاء مثل هذا الوضع، من المستغرب ألا يحاول مزيد من الغجر الرحيل عن وطنهم والهجرة إلى بلد آخر، لكنهم يواجهون تمييزًا في البلدان الغنية أيضًا مثل المانيا. ويقول استاذ العلوم السياسية ماركوس ايند في برلين إن الغجر كثيرًا ما يتعرضون للشتائم والاهانات والاعتداء، وليست لديهم فرص متساوية في سوق العمل. أضاف ايند: quot;التمييز ضد الغجر ممارسة يومية في المانياquot;.

فقد تعرض الغجر في المانيا لاقتحام بيوتهم وتهديد اطفالهم واهانة نسائهم وشتم رجالهم. وهناك دول اوروبية غنية أخرى تضمر عداءً اشد للغجر. ففي ايطاليا، تحاول الحكومة إعادة إسكان الغجر في مخيمات منفصلة، بيوتها من الحاويات، مثل مخيم سالوني على اطراف الطريق الدائري الذي يلتف حول العاصمة روما.

جرذان وأفرشة متعفنة

تعيش نحو 500 عائلة في مخيم سالوني، وفي احيان كثيرة ينحشر أكثر من ستة أو سبعة اشخاص في مساحة لا تزيد على 30 مترًا مربعًا. وترتع الجرذان بين الحاويات وتتجول الكلاب السائبة في المخيم الممتلئ بالارائك العتيقة والأفرشة العطنة التي يرميها الغجر سرًا. لكن مخيم سالوني يُفترض به أن يكون حيًا سكنيًا نموذجيًا، أُنشئ للأقلية الغجرية.

في الحقيقة، سالوني اقرب إلى الغيتو منه إلى الحي السكني أو القرية العصرية، وهو يحرم اشخاصًا مثل الفيز ايسلولا من الاندماج بالمجتمع الايطالي والعيش حياة طبيعية. فإن الوصول إلى وسط روما من المخيم يستغرق نحو أربع ساعات لمن يبحث عن عمل أو مهنة.

ويتساءل ايسولا مَنْ يكون مستعدًا ليعمل في اسطبل أو مطبخ إذا كان عليه أن يقطع مثل هذه المسافة كل يوم. وقال سالومي الغجري من سكان المخيم: quot;السياسيون يفوزون في الانتخابات برمي الغجر في سجون مثل مخيم سالونيquot;.

وفي فرنسا، يتعرض الغجر لكل أشكال التمييز والاضطهاد. فالمخيمات التي اوجدها غجر وافدون من رومانيا وبلغاريا ببيوت متنقلة واكواخ موقتة تُجرف بكل بساطة. وبدأ استخدام طريقة التجريف في عهد المحافظ نيكولا ساركوزي، واستمرت في عهد الاشتراكي فرانسوا هولاند.

والجبهة الوطنية اليمينية ليست وحدها في فرنسا التي تعتقد أن غالبية الغجر عاجزون عن الاندماج بالمجتمع. فان وزير الداخلية الاشتراكي مانويل فالس يتفق معها في ذلك، قائلًا إن نمط حياتهم مختلف. وتلقى فالس تهديدًا بمعاقبة فرنسا من مكتب مفوضة العدل الاوروبية فيفيان ريدنغ، التي أفهمته بأن الحقوق التي تضمن حرية الحركة في الاتحاد الاوروبي تسري على الغجر ايضًا. واتضح لريدنغ موقف الدول الأعضاء في الاتحاد الاوروبي من الغجر وعدم الاكتراث بأحوالهم عندما حضرت مؤتمر القمة الغجرية في قرطبة في العام 2010، ولم يحضر إلا ثلاثة وزراء.

لا استراتيجية خاصة

بعد قمة قرطبة، طالبت ريدنغ الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي بتقديم استراتيجية لدمج الغجر بالمجتمع. فجاء رد ألمانيا واضحًا. ففي العام 2011، وصلت إلى ريدنغ من برلين وثيقة تعترف بوجود مصاعب حين يتعلق الأمر بدمج المهاجرين، quot;لكن ليست هناك حاجة إلى استراتيجية خاصة بالغجرquot;، كما جاء في الوثيقة.

وفي ربيع 2013، دعت ريدنغ إلى طاولة مستديرة لبحث قضايا الغجر، وكان الهدف منها إتاحة الفرصة للمنظمات الانسانية وممثلي الغجر أن يعبروا عن همومهم ومشاكلهم. فقدموا قائمة طويلة من المظالم ابتداء بالفقر إلى التمييز الصارخ وصعوبة الحصول على التعليم والخدمات الصحية.

لكن الاتحاد الاوروبي، على قوته، لا يملك تأثيرًا يُذكر حين يتعلق الأمر برسم سياسة تتعامل مع قضية الغجر، وليست لدى ريدنغ امكانات كبيرة لفرض عقوبات على الدول المخالفة. فهي كتبت رسالة شكوى إلى وزير الداخلية الالماني فريدريش على تصريحاته الجارحة بحق الغجر، وانتقدت ايطاليا، وبدأت تتخذ اجراءات قانونية بحق فرنسا حين أبعدت باريس اعدادًا كبيرة من الغجر.

ويقطر صوت ريدنغ احباطًا عندما تقول إن ما تتلقاه من دول الاتحاد الاوروبي هو خطابات إنشائية تُلقى يوم الأحد أو مواقف شعوبية موجهة ضد الغجر. فإن الوقوف إلى جانب الغجر لا يكسب اصواتًا، ولم تنفق دول الاتحاد الاوروبي 26.5 مليار يورو توفرت لها خلال السنوات الخمس الماضية من أجل المساعدة على دمج الغجر بالمجتمع.

شك في المصداقية

في بداية كانون الأول (ديسمبر)، أقرت دول الاتحاد الاوروبي وثيقة أخرى التزمت فيها باتخاذ اجراءات هادفة لتسريع عملية دمج غجرها بالمجتمع. وقالت المفوضة ريدنغ إن الوثيقة تبين أن الدول الأعضاء مستعدة لأن تفعل شيئًا لمساعدة هذه الأقلية. واضافت أنها لن تتردد في تذكير هذه الدول بالتزاماتها والتوثق من تنفيذها.

في هذه الأثناء، فرض وزراء داخلية الدول الاوروبية قيودًا جديدة على الدخول بلا تأشيرة من دول في منطقة البلقان مثل صربيا ومقدونيا، بل اقترح وزير الداخلية الالماني فريدريش قبل نقله إلى وزارة الزراعة شمول الأشخاص القادمين من رومانيا وبلغاريا بالقيود المفروضة على حرية السفر، رغم أنهما دولتان كاملتا العضوية في الاتحاد الاوروبي.

وتدفع مثل هذه المواقف غجر اوروبا إلى الشك في مصداقية القرار الجديد لتحسين احوالهم والنظر اليه على أنه قرار لا يساوي قيمة الورقة التي كُتب عليها.