كباكورة لأعمالها اختارت مكتبة الشيخ بهاء الدين العاملي العامة، كتاب quot;ذكريات نيلسون مانديلا ndash; حواري مع نفسيquot; عنوانًا لندوتها الثقافية التي أقيمت أمس، فكانت فرصة للغوص في مكامن هذه الشخصيّة التاريخيّة العالميّة التي باتت رمزًا للعدالة والحرية والمساواة.


بيروت: لأنه عاش حياة زاخرة بالنضال من أجل المساواة والعدالة، عانى فيها قسوة نظام الفصل العنصري، وصموده حتى تحقّق حلمه في انهيار هذا النظام، إختير نيلسون مانديلا الذي استحق بجدارة صفة الزعيم العالمي، ليكون موضوع الندوة الثقافيّة التي أقيمت أمس الأربعاء، في قاعة السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي في مجمع الإمام الصادق في الضاحية الجنوبية لبيروت، في وقت نشهد الكثير من الإنتهاكات لحقوق الإنسان في دول عربيّة تعاني شعوبها اللاعدالة والفروقات الإجتماعيّة والسياسيّة وتبحث عن مخرج نحو الحرية والمساواة.

وهذه الندوة هي باكورة أعمال مكتبة الشيخ بهاء الدين العاملي العامة، شارك فيها ممثل السيد السيستاني في لبنان الأستاذ حامد الخفاف، الدكتور في علم الإجتماع في الجامعة اللبنانية طلال عتريسي، والباحث والكاتب في جريدة السفير اللبنانيّة حلمي موسى، وأدارها الصحافي أمين ناصر، تناولت كتاب quot;مذكرات نيلسون مانديلا ndash; حواري مع نفسيquot;.

عانى مانديلا أبشع أنواع الظلم ولم يتخلَ عن أي من حقوق شعبه
إنطلقت الندوة مع الدكتور طلال عتريسي، الذي وبعد قراءته الكتاب والبحث في مراجع مختلفة، تأكّدت لديه فكرة أن مانديلا رمزٌ عالميٌ للنضال، استحوذ على اهتمام عالمي بعد خروجه من سجنه وبعد وفاته، فشارك في تشييعه أغلب رؤساء العالم المؤيدين والمندّدين بنظام الفصل العنصري.

ويقول عتريسي إن مانديلا مناضل شهير، عاش 27 عامًا في سجون الفصل العنصري، وبعد خروجه من السجن حمل شعار المصالحة والتسامح، فهو لم يكن يريد الإنتقام من البيض وإنما من المسؤولين عن هذا النظام العنصري، وصولًا إلى بناء مجتمع منبثق من مبادئ الديمقراطية والعدالة والمساواة من دون نسف تنظيم المجتمع، وطرح أفكار حول المساواة كأساس للسعادة المجتمعية.

والمعلوم أن مانديلا اعتقل لأنه انتهج الكفاح المسلّح في مسيرة نضاله وأدّى ذلك لاعتقاله ودخوله إلى السجن، ولعلّ ما يميّز هذه الشخصيّة العالميّة التاريخيّة تمسّكه الدائم بجذوره الأفريقية وانفتاحه في الوقت نفسه على العالم وما يجري فيه.

وإضافة إلى ذلك، كان للزعيم الجنوب أفريقي أفكار في حلّ المشكلات السياسيّة قائمة على مبدأ المواجهة والمعالجة وعدم الهروب، فهو يقول : quot;لا أملك الحقّ في الحكم على الآخرين إنطلاقًا من تقاليدي الخاصّة على الرغم من تقديري لها، ولا يحقّ لي مقت الآخرين بسبب تقاليدهم فهذا شكل من أشكال الشوفانيةquot;. وهذا ما يندرج في خانة تقبّل الآخرين على اختلاف دينهم وعرقهم وثقافتهم وتقاليدهم.

ليخلص عتريسي بالقول: quot;مانديلا لم يعد ملكًا لشعبه، كما لم يفاوض على أي من حقوق حركة التحرير التي قادها، بل فاوض على تفكيك نظام الفصل العنصري، وفي عصره تحرّرت أفريقيا من هذا النظام، ولكنها ما زالت تعاني فروقات إجتماعية خصوصًا أن النظام الإقتصادي مازال بيد البيض، وهو ما يحتّم القيام بنضال آخر للقضاء عليه، خصوصًا أن حياة الغالبية العظمى من شعوب أفريقيا لم تتغيّرquot;.

مانديلا إستحقّ صفة الإنسان الحقيقي
في القسم الثاني من الندوة، تحدّث الباحت السياسي حلمي موسى، الذي رأى في نيلسون مانديلا إنسانًا حقيقيًا، متصالحًا مع نفسه، قريبًا من الناس ومالكًا لقلوبهم، فكان قدوة للعالم ما عدا إسرائيل !

ويضيف في معرض تحليله لهذه الشخصيّة، ويقول: quot;خسر مانديلا منصب شيخ قبيلة، لكنّه كسب حبّ الناس أجمعين تقريبًا، والدليل جنازته التي حشدت العالم باستثناء إسرائيل التي لم ترسل مندوبين على المستوى الرسمي لتمثيلهاquot;.
وبرّر غياب اسرائيل وموقفها من مانديلا بتناقض مبادئه مع عقيدتها، فهو من أكثر من دافعوا عن المساواة والحرية والعدالة بينما إسرائيل تنتهك يوميًا حقوق الفلسطينين وأرضهم، ولأنه انتهج الكفاح المسلّح الذي تعتبره هي إرهابا.

وغاص موسى في نشأة مانديلا وسجنه، وأشار إلى أنه عاش التمييز منذ طفولته، فهو حفيد أحد ملوك أفريقيا (جدّه والد أمّه) ويسري فيه الدم الملكي، ولكنه لم يتمكّن من الوصول لأنه والده رجل عادي، فشعر بانعدام العدالة ونمت لديه مشاعر رفض الظلم. أمّا دخوله السجن لمدة 27 عامًا كان عاملًا مهمًا في تشكيل شخصيّة وأفكار مانديلا، لأنه خلال هذه المرحلة نمّى قدراته على التأمل والمراجعة واضعًا كلّ أفكاره تحت هذا المجهر، فإذا رأى أنه مخطئ تراجع وصحّح، وإذا تأكّد له أنه على حقّ أصرّ وتمسّك برأيه، وهذا ما حوّله من شخص عادي إلى شخص مؤثّر لدى الناس ورمز عالميّ للسلام والحرية.

وأضاف موسى أن الصراعات السياسية في المجتمع الأفريقي جعلت مانديلا يتمسّك بمبادئه للحدّ من التطرّف خصوصًا في ما يعتبره حقًا أو باطلًا، وزرعت فيه توازنًا عاليًا برز من خلال تصالحه مع نفسه واقراره بالإختلاف واحترام الآخر، وسيطرت عليه فكرة العدالة والمثال على ذلك طلاقه من زوجته فقط بعدما ثبتت بحقّها الجرائم المدانة بها. ووجد موسى أن أفريقيا خسرت بوفاته قيمة عظيمة يصعب عليها أن توجد بديلًا لها في الوقت القريب.

بين إسرائيل ومانديلا : تناقض واختلاف
ودخل الباحث حلمي موسى في تحليل العلاقة بين جنوب أفريقيا وإسرائيل وكيفيّة تأثيرها على نظرة الأخيرة لنيلسون مانديلا والعكس، بانيًا نظريته على مجموعة من الواقع.

يرى حلمي أن نشأة إسرائيل عام 1948 واعتراف نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بها كدولة ليس محض صدفة، وكذلك الأمر في ما يتعلّق بانطلاق القوّتين الإسرائيلية والجنوب أفريقية في الفترة نفسها، ونظرًا لدور إسرائيل منذ عام 1948 وحتى عام 1967 في الدول الإفريقية واعتبارها quot;الوكيل الإمبرياليquot; هناك، واستند نهاية إلى أن تطوير إسرائيل لم يتمّ إلّا من خلال علاقتها بإيران في عهد الشاه وبنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

وهذا ما رأى فيه تأكيدًا لوجود تناقض بين مبادئ مانديلا والعقيدة الإسرائيلية، أوّلًا لناحية المطالبة بالحرية والمساواة والعدالة واحترام حقوق الآخرين وعدم انتهاكها، ثانيًا لناحية انتهاجه الكفاح المسلّح الذي تعتبره إسرائيل إرهابًا، واتهامه بالشيوعيّة ومنهاضته للصهيوينة إستنادًا إلى أفكاره اليساريّة وذلك بالتزامن مع تطوّر العلاقات الأميركيّة ndash; الإسرائيلية.

معلّلًا بذلك غيابها عن جنازته ومشيرًا إلى أنها الوحيدة التي كتبت مقالات ضد مانديلا بعد وفاته، بينما رأى أن مشاركة كلّ دول العالم في جنازته كانت نوعًا من براءة الذمّة، لأن بعضها كانت تتعاون وتدعم نظام الفصل العنصري، ولم تحرّك ساكنًا أثناء سجن نيلسون مانديلا.