حين انقلب نوري المالكي على شركائه السنّة، وخصوصًا مجالس الصحوة، فقد أهمّ وأقوى نصير سني له ضد القاعدة، وهذا ما يظهر جليًا اليوم في الأنبار.


لندن: بدأت المقارنات تُعقد بين ما يجري في العراق اليوم وما شهده في السنوات الممتدة من 2004 إلى 2007، عندما انزلق إلى حرب أهلية بانتشار فرق الموت والقتل على الهوية. وكانت هذه الموجة العاتية من الصراع الطائفي بلغت ذروتها في العام 2006 ولم تنحسر إلا في ربيع 2008 زاهقة في هذه الأثناء ارواح 58 الف عراقي على الأقل. وحدث الانحسار بتضافر جملة عوامل بينها ارسال تعزيزات اميركية كبيرة، وأهمها تشكيل مجالس الصحوة التي تصدت لتنظيم القاعدة في العراق، وطردت مسلحيه من مناطق عديدة كانوا يسيطرون عليها في الأنبار غربي العراق، وفي بغداد نفسها ومحيطها.
جذر المشكلة
اليوم، يتخذ اللاعبون أنفسهم الذين أشعلوا تلك الحرب، وأطلقوا موجة العنف الطائفي خطوات تهدّد بإعادة العراق إلى تلك الأيام السوداء، لكن في غياب القوات الاميركية، إذ اعلن وزير الخارجية الاميركي جون كيري أن الولايات المتحدة لا تفكر في العودة، وعلى العراقيين أنفسهم أن يحلوا نزاعاتهم. ولا ينم عن القادة العراقيين ما يشير إلى أنهم قادرون على ما قاله كيري، بل إن الوضع يزداد تفاقمًا، كما يتضح مما يجري في محافظة الانبار التي استأثرت باهتمام وسائل الاعلام منذ اواخر العام الماضي، بسيطرة تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) على الرمادي والفلوجة. لكن هناك أزمات أخرى تعتمل في هذه الأثناء بلا هوادة منذرة بانزلاق العراق، عائدًا إلى فوضى العنف الطائفي.
ويرى مراقبون أن ما يزيد الاحتقانات التي يشهدها المجتمع العراقي حدة قرار رئيس الوزراء نوري المالكي أن يختار المواجهة بدلًا من التفاهم مع خصومه السياسيين، وخصوصًا الكتل السنية في مجلس النواب. وفي هذه الأجواء، أخذت الانتماءات الطائفية والسياسية للقيادات الأمنية تطغى على واجباتهم في حماية المواطن بصرف النظر عن هويته.
انقسامات بين الجميع
امتدت الانقسامات في عمق المكوّن الشيعي نفسه، الذي يشهد صراعًا ضاريًا بين ميليشيات شيعية راديكالية، فيما تقاتل العشائر السنية داعش وتتقاتل في ما بينها ايضًا. وعادت عمليات تهجير العراقيين بسبب هويتهم، ونقلت مجلة تايم الأميركية عن النائب عزت الشابندر، الذي انشق عن كتلة المالكي البرلمانية، قوله: quot;إذا بقيت السياسة بلا تغيير، سيكون الوضع كما كان في العام 2006quot;.
وتبدّى الانقسام الذي يمنع قوى الأمن من أداء واجبها الوطني على ما يُفترض بأسطع أشكاله في منطقة الكاظمية شمالي بغداد، خلال إحياء اربعينية مقتل الامام الحسين مؤخرًا، إذ كان افراد الشرطة يفتشون الزوار قبل السماح بدخولهم مرقد الكاظم بالمناسبة، فيما كان رجال بملابس مدنية يقفون بجانب قوى الأمن يراقبون كل رجل يمر. لكن هؤلاء لا ينتمون إلى أجهزة أمنية أخرى، بل هم عناصر في جيش المهدي، ميليشيا التيار الصدري الذي له سطوة كبيرة في منطقة الكاظمية.
لكن رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، ليس وحده الذي ينتشر اتباعه في الشوارع، بل يندس عناصر عصائب اهل الحق ايضًا في احياء المدينة، كما أكد عراقيون من سكان المنطقة. وكانت جماعة عصائب اهل الحق التي يتزعمها قيس الخزعلي انشقت عن جيش المهدي في العام 2007. وتبدو قوى الأمن عاجزة عن منع هذه الميليشيات أو غير مستعدة لمنعها.
عصائب أهل الحق
وأخذت اوساط واسعة من اهل الكاظمية تبدي غضبها الشديد على سكوت النخبة السياسية الشيعية عن جماعات مثل عصائب اهل الحق وجيش المهدي أو رعايتها. وقال ضابط الشرطة ابو بنين إنه انخرط في قوات الشرطة منذ العام 2005، وقاتل مسلحي تنظيم القاعدة في مدينة الموصل شمال العراق، حيث أُصيب إثر انفجار عبوة ناسفة، وما زال يحمل شظايا العبوة في رأسه. وإذا كان ابو بنين يكره تنظيم القاعدة، فانه لا يكنّ أي تعاطف مع القادة السياسيين، بمن فيهم السياسيون الشيعة.
وأكد ابو بنين أن عصائب اهل الحق تسيطر على احياء كاملة من مدينة الحرية المجاورة للكاظمية. وقال لمجلة تايم: quot;من يريد بيع أو شراء عقار في هذا الشارع عليه أن يدفع عمولة لعصائب اهل الحقquot;.
واضاف أن هذه الميليشيا تستطيع أن تطرد المواطنين متى ما تشاء، فوالد زوجته عاد إلى بغداد في العام 2012، بعد سنوات من الاقامة في كندا، لكن عصائب أهل الحق أمرته بالرحيل، فهرب إلى النجف واصفا عناصر هذه الميليشيات بأنهم quot;مجرمونquot;.
انقلاب المالكي
في هذه الأثناء، واصل تنظيم القاعدة إعادة بناء قواه وتنظيم صفوفه مستغلًا اخطاء المالكي وسياسته الطائفية بلا لبس، إذ رفض المالكي جميع المرشحين الذين قدمتهم كتلة النواب السنة لتولي وزارة الدفاع، وركز سلطات واسعة في يده ليصبح القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع ووزير الداخلية ووزير الأمن القومي، والمسؤول عن قيادة عمليات بغداد، وأجهزة أمنية متعددة ترتبط مباشرة بمكتبه. كما استعدى عليه رجال الصحوة، الذين قطع عليهم رواتبهم من دون أن يوفر لهم فرص عمل بديلة عن مهماتهم الأمنية. وأسفرت سياسة التهميش والاستبعاد هذه عن احتجاجات واعتصامات انطلقت منذ أكثر من عام، وما زالت مستمرة في المحافظات السنية.
وأوجدت هذه السياسات تربة خصبة لعودة تنظيم القاعدة، الذي تمكن من إقامة معاقل له في المناطق الريفية خارج بغداد متحينا الفرصة المناسبة. وفي نيسان (ابريل)، أمر المالكي قواته بفض اعتصام المحتجين في قضاء الحويجة شمال بغداد، بدلًا من التوصل إلى تفاهم مع شركائه السنة. واسفرت عملية فض الاعتصام عن مقتل 51 شخصًا، وتفجير ايام من المواجهات الدموية في انحاء العراق. وارتفعت الحصيلة الشهرية لعدد القتلى إلى اعلى مستوياتها منذ ايام الحرب الأهلية في العام 2008.
انعدام الأمن الكامل
ويواجه المالكي تحديًا حقيقيًا من القاعدة، بعد أن استعدى عليه القوة الحاسمة التي قصمت ظهر القاعدة في الانبار، ويحذر سياسيون عراقيون من أن اصرار المالكي على رفضه الاستجابة لمطالب الاهالي في المحافظات السنية سيؤدي على الأرجح إلى مزيد من المواجهات بينهم وبين قوى الأمن، وليس في الانبار وحدها.
وفي هذا الشأن، وصف رعد الدهلكي، عضو مجلس النواب عن مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى شمال شرق بغداد، الوضع في محافظته بأنه أعمال قتل وتهجير طائفية، تقابلها اعمال قتل وتهجير مضادة. وقال الدهلكي لمجلة تايم: quot;تضافر الأزمة السياسية مع اعمال العنف يعني انعدام الأمن بالكامل وإيجاد وضع ناضج للمجرمين وكل من يريد استغلالهquot;.
ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في 30 نيسان (ابريل)، تبدو مقاطعة المحافظات السنية لها أو تدني نسبة المشاركة فيها هي الاحتمال الأرجح. ومن شأن هذا أن يقوض شرعية الحكومة القادمة. وفي غياب فرص أي قوة لتحقيق فوز حاسم فإن نتيجة الانتخابات يمكن أن تسفر عن صراع بين المالكي وخصومه من الشيعة على تولي رئاسة الحكومة. وكان صراع مماثل نشب بعد انتخابات العام 2006. وفي غضون أشهر من تلك الانتخابات، استعرت الحرب الأهلية خارج السيطرة، وقد يكون السياسيون العراقيون تأخروا عن منع بلدهم من العودة إلى تلك الصفحة المطلخة بالدم، كما تحذر مجلة تايم.