من المؤكد إن هناك أنماط ومفاهيم عديدة للديمقراطية، وان الديمقراطية بمفهومها العام لاتعني فقط تداول السلطة بين الاحزاب السياسية أو الاتفاق على المشاركة في العملية السياسية بهدف الحصول على بضعة مقاعد في البرلمان لتقوية المواقع السياسية أو تبوأ مراكز متقدمة في الدولة. بل إن قبول الرأي الاخر هي من اساسيات النظام الديمقراطي ولايمكن ممارسة الديمقراطية من دون افساح المجال لحرية التعبير وطرح الافكار المختلفة، وهي تنافي فرض النزعة الاحادية في السلطة والاستبداد بالاراء التي تثير الكراهية والصراعات. أن على من يدعي الديمقراطية قبول الاختلاف في الرأي وعدم اعتبار الاراء المعارضة والمنتقدة للاوضاع عداء وتآمر يستهدفه شخصياً أو خطراً يهدد موقعه السياسي ويستهدف أضعاف دور الحزب الذي ينتمي اليه. بل على العكس تماماً، فأن قبول وجود الاخر بغض النظر عن اختلاف الاراء واستيعاب التعددية يكمن في جوهر الديمقراطية.

رغم ان السياسة تعد شكلاً من أشكال الثقافة، الا ان الثقافة السامية قوامها المبادئ والقيم، بينما تستند السياسة على المصالح بالدرجة الاولى وهي تختلف بالطبع حسب الموروث الثقافي للمجتمعات. ففي الدول التي قطعت أشواطاً في ممارسة الديمقراطية يسود الوعي والادراك لقبول الخلاف الفكري بعكس المجتمعات التي تفتقد الى التقاليد الديمقراطية، حيث ديماغوجية القادة السياسيين لاتزال هي التي تتحكم في العملية السياسية وهم لا يتوانون في اللجوء الى استخدام العنف لاسكات المعارضين ومصادرة حرية التعبير. وإن الممارسات الخاطئة للقادة والاحزاب السياسية وما خلفتها من التأثيرات والافرازات الاجتماعية، ادت الى اشاعة سلوكيات مريضة تتسم بالانانية والعدوانية تجاه الآخر. بل ان الخطاب السائد هو أن مخالفة الرأي تعني المعاداة وكل من يعادي أفكار زعيم ما فهو عدو له ويجدر اتباع جميع الاساليب لفضحه وإدانته وتدميره واخراجه من الساحة.

لاتزال ثقافة التخوين والاستعداء هي السائدة في مجتمعاتنا وبالذات لدى القادة السياسيين، بدلاً من ثقافة الحوار وقبول الاخر المخالف اوالمعارض. فاللجوء الى استعمال الاساليب غير الحضارية والحط من شأن المخالفين بشتى الوسائل بدلآ من الحوار والنقاش في إدارة الخلافات أو النزاعات الفكرية و الصراعات السياسية وبالاحتكام الى العقل و وفق الاساليب الحضارية، لاتزال تعد من الظواهر المقيتة التي تخيب الامال وتعكر الجو العام ويمكن اعتبارها من اكبرالعقبات في طريق الديمقراطية التي ننشدها.

في آخر حديث له لصحيفة الشرق الاوسط اللندنية في عددها 11356 الصادر في يوم الخميس المصادف 31/12/2009، يتطرق السيد جلال طالباني رئيس جمهورية العراق الى جملة من المواضيع التي طرحت عليه قبيل انتهاء ولايته، من أهمها مدى رغبته في اعادة ترشيح نفسه لفترة رئاسية أخرى، تجربته في الرئاسة وتقييمه لتلك التجربة، مدى تأييد العراقيين له كأول رئيس كوردي في العراق، علاقة الحزب الذي يترأسه (الاتحاد الوطني الكوردستاني) مع حليفه وشريكه في حكومة أقليم كوردستان، الى جانب أسئلة أخرى متعددة. وتطرق السيد طالباني في معرض رده على سؤال حول مدى اعتباره للسيد نوشيروان مصطفى نائب الامين العام السابق في الحزب الذي يترأسه حول كونه معارضاً ام معادياً والذي نحن بصدده في هذا المقال، وقد جاء الرد مثيراً للانتباه ومناقضاً تماما للمواقف والسياسات التي يفترض بالسيد طالباني انتهاجها كرئيس لدولة تحاول نفض غبار الماضي بانتقاله من حكم شمولي ظل قابعاً على صدور العراقيين لثلاثة عقود ونيف، الى التعددية الحزبية وممارسة الديمقراطية رغم مخلفات عقود من التهميش وكبت الحريات السياسية وممارسة شتى انواع القمع والاستبداد، فضلاً عن التحديات الجمة التي واجهها العراق من جراء العمليات الارهابية الواسعة لتنظيمات القاعدة وبقايا النظام السابق. و قد جاء الرد بصريح العبارة quot;هو معادٍ للاتحاد ومعارض ومعادٍ لحكومة الإقليمquot;.

ليست هذه المرة الاولى الذي يتعرض فيها السيد طالباني الى رفيق مسيرته السياسية التي بدأت من أواخر الستينات من القرن الماضي. ففي التقرير الذي القاءه في المؤتمر المصغر (البلنيوم) للاتحاد الوطني الكوردستاني الذي عقد في اواخر شهر اكتوبر 2009 في مدينة السليمانية، وجه جملة من الاتهامات الخطيرة الى السيد مصطفى والقى باللائمة عليه في خلق المشاكل والنزاعات بين قيادي الاتحاد الوطني الكوردستاني، وتسببه في احتدام الاقتتال الداخلي مع الحزب الديموقراطي الكوردستاني، واصداره أوامر باغتيال المعارضين للحزب، وتفرده باصدار قرارات خاطئة سببت في التفكك التنظيمي للحزب، فضلاً عن اثارة الصراعات الداخلية وتهربه من المسؤوليات الحزبية بل تعدى ذلك الى القاء اللوم عليه في خلق المبررات للنظام السابق في استخدام السلاح الكيمياوي في قصف مدينة حلبجة. جاءت تلك الاتهامات رغم مرور فترات طويلة على الاحداث التي اشار اليها طالباني في سياق تقريره والتي شهدتها الحركة الكوردية خلال سنوات الحرب العراقية ndash; الايرانية، والاحداث التي تبعت طرد القوات العراقية من الكويت في اعقاب حرب الخليج الثانية وسيطرة سلطة الاحزاب الكوردية على اقليم كوردستان.

أن ما يثير التساؤلات الكبيرة هو تغاضي السيد طالباني عن تلك الاتهامات الخطيرة أو بالاحرى القبول بتلك الممارسات المزعومة من نائبه ورفيق دربه وهو في قمة الهرم التنظيمي للحزب، وفضل السكوت عنها خلال سنوات طوال، ونجح في الحفاظ على العلاقة الرفاقية المتينة التي كانت تربطه بالسيد مصطفى والتي استمرت عبر مراحل زمنية مختلفة، منذ بداية انشقاق جناح المكتب السياسي للحزب الديموقراطي الكوردستاني بزعامة الراحل ابراهيم أحمد الذي كان يتبوأ منصب سكرتير الحزب في اواسط الستينات من القرن الماضي، حيث كان السيد طالباني يمثل الواجهة الرئيسية للجناح المنشق، والتجأ الى التعاون مع حكومة بغداد وبادر الى فتح مقرات خاصة في بغداد وبعض مدن كوردستان وحمل السلاح الى جانب القوات الحكومية لمحاربة قيادة الحزب الديموقراطي الكوردستاني بزعامة الراحل مصطفى البارزاني. كان السيد طالباني الذي كان معروفاً بميوله للفكر الماوي في ذلك الحين، يستند في تبرير مواقفه السياسية آنذاك بكيل الاتهامات للبارزاني بالعمالة لنظام شاه ايران وحلف بغداد (السنتو). وقد نجح بدهائه السياسي الى حد كبير في استقطاب مجاميع كبيرة من المثقفين الكورد من مختلف الاتجاهات وخاصة اليساريين والوطنيين المناوئين لامريكا والاحلاف الاستعمارية. وحسب اطلاعي كان السيد مصطفى يعمل في مجلة النور التي كانت يصدرها في بغداد جناح المكتب السياسي الذي كان السيد طالباني أحد زعمائه الرئيسيين. وتقوت علاقة الرجلين في اعقاب انهيار الحركة الكوردية بزعامة السيد مصطفى البارزاني بعد اتفاقية الجزائر التي وقعها صدام حسين مع شاه ايران، حيث لجأت عناصر من تنظيم عصبة الماركسية- اللينينية التي عرفت لاحقاً بعصبة الكادحين وكان السيد نوشيروان مصطفى أحد مؤسسيها ومن ثم أصبح سكرتيراً لها الى حمل السلاح لمحاربة النظام العراقي، وانضوت تحت قيادة الاتحاد الوطني الكوردستاني تنظيمين سياسيين آخرين ومنذ ذلك الحين استطاع طالباني فرض سيطرته على قيادة الحزب والى يومنا هذا.

تأتي اتهامات السيد طالباني بعد أن قرر السيد نوشيروان مصطفى الخروج من صفوف الاتحاد الوطني الكوردستاني نهائياً، بعد أن حاول جاهداً اجراء اصلاحات جوهرية في صفوف الحزب وتزعمه لما كان يسمي بجناح الاصلاح الذي كان يطالب بتحديد الصلاحيات الواسعة لطالباني، واطلاق يده عن ميزانية الحزب، واتباع الشفافية وغير ذلك من الاصلاحات، التي لم تكن تروق للقيادة التقليدية لطالباني ومجموعة من الموالين له من المنتفعين والانتهازيين. ومع حلول موعد الانتخابات البرلمانية في اقليم كوردستان، قرر السيد مصطفى المشاركة في الانتخابات بقائمة مستقلة تحت شعار التغيير. وتمكن من استقطاب الالاف من الاصوات المعارضة والمنادية بضرورة الحد من سلطات الحزبيين الرئيسيين اللذين تحالفا بهدف تقاسم السلطة بعد خلافات وتناحرات دموية بينهما استمرت لسنين عديدة. اذهلت النتائج التي اسفرت عن اجراء الانتخابات وفرز الاصوات سلطة اقليم كوردستان وبالاخص قيادة الاتحاد الوطني الكوردستاني حيث حصلت قائمة التغيير على 25 مقعداً وبفارق قليل عن المقاعد التي حصل عليها كل من حزبي السلطة. وقد جاء اكثر الاصوات التي حصلت عليها قائمة التغيير من مناطق نفوذ الاتحاد الوطني الكوردستاني على رغم الخروقات وعمليات التزوير وشراء الاصوات والتهديد العلني للناخبين باتخاذ الاجراءات بحقهم في حالة تصويتهم لصالح قائمة التغيير. ألا ان النتئج كشفت عن مدى تذمر الناس من سلطة الحزبين وظاهرة الفساد المستشرية في كل المرافق والمؤسسات الحزبية والحكومية لاسيما في اعلى المستويات. كما وأكدت النتائج نجاح السيد نوشيروان مصطفى وقائمة التغيير التي ترأسها في كسب ثقة الشعب الكوردي واستقطاب التيارات المختلفة لاسيما المثقفين والشباب والجماهير الشعبية التي حرمت من ابسط الخدمات. فيما هناك فئة قليلة من القادة الحزبيين والمسؤولين الكبار وثلة من المحسوبين عليهم تتحكم بالمليارات من الدولارات من حصة الاقليم من ميزانية العراق لمصالحها الذاتية وتاسيس الشركات الخاصة والمشاريع الكبرى.

يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي quot; الإنسان مجبول أن يرى الحقيقة من خلال مصلحة و مألوفات محيطة، فإذا اتحدت مصلحته مع تلك المألوفات الاجتماعية، صعب عليه أن يعترف بالحقيقة المخالفة لهما ولو كانت ساطعة كالشمس في رابعة النهارquot;. هذا ما يمكن قوله على موقف السيد طالباني وتوجيه كيل من الاتهامات الى السيد نوشيروان مصطفى الذي اراد تصحيح المسارات الخاطئة التي كان يتبناه طالباني في قيادة حزبه ويحكم سيطرته عليه بنزعة احادية. حري برئيس دولة تخطو خطوات متثاقلة نحو الديمقراطية أن يكون رمزاً للديموقراطية ومتفتحاً على كل التيارات السياسية وفق مبدأ المساواة بين الجميع وترك المصالح الحزبية والفئوية جانباً في التعامل مع الاخرين، وان يستقبل الاراء والافكار الصادرة من المخالفين والمعارضين برحابة صدر، ويبتعد عن روح الإقصاء والاستئصال أوالتخوين والتجريح والكراهية ضد من يعارضه أو من يهدد مصالحه الذاتية أو الحزبية. فتلك هي حالات شاذة وخطرة يجب الخوض فيها والتصدي لها والبحث في دواعيها النفسية والاجتماعية والسياسية، لاسيما اذا ما اتت من اشخاص في قمة هرم السلطة، الذي يفترض أن يكون راعي للافكار الصائبة ومؤمناً بالمساواة وبالتعددية السياسية وبحرية الفكر ضمن الفضاء السياسي المتاح للجميع، وحقهم في الاعتراض والمخالفة وحرية العمل السياسي بين الجماهير. فاحتكار الحقيقة واشاعة ثقافة التخوين وتشنيع الاخر على مواقفه الفكرية والسياسية مخالفة صريحة لاسس الديمقراطية بل هي ترسيخ لثقافة التآمر والاقصاء ضد المنافسين السياسيين والتعامل معهم كخصوم واعداء.

انني هنا لست بصدد الدفاع عن السيد نوشيروان مصطفى، فهو شخص عصامي يتميز بحنكة سياسية وصفات قيادية متميزة، وذو تجربة غنية في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية. وهومعروف عنه بنزاهته وعدم تورطه في الفساد واستغلال المال العام لمصالحه الشخصية. ولكنني أرى أن اللجو الى تخوين الاخرين و وضعهم في خندق الاعداء بمجرد طرح افكار مخالفة أو تزعم حركة معارضة، سيزيد من حالة التوتر والارباك في المجتمع وتعرقل السير بالاتجاه الصحيح. فان التعامل بمنطق الاسود والابيض دون الادراك بوجود منطقة رمادية ثبت فشله. ويتوجب على رئيس الدولة أن يتجرد من الحزبية وينظر الى جميع الفرقاء دون تمييز ويتخلى عن منطق quot;من ليس معي فهو ضديquot;. وأخيراً فان ثقافة التخوين لاتنسجم مع الديمقراطية، بل هي ثقافة الاحزاب الشمولية والتيارات الاصولية. فالشيوعيون الروس انقسموا الى بلشفيك ومنشفيك و انصار تروتسكي ومن ثم الستالينية. وكذلك فهي ظاهرة تلاحظ لدى الاحزاب القومية التي توصم المخالفين لتوجهاتها بالعمالة والرجعية والخيانة الوطنية أوبالكفر والالحاد بالنسبة لمخالفي توجهات الاحزاب والتيارات الدينية.

سيدني

[email protected]