هو مزيج من الجهل والجبن ما يدفع الأفراد والشعوب إلى العزوف عن المقاربة العلمية والمخلصة لمشاكلها، فتلجأ لترحيل أسباب ما تعانيه من إشكاليات، لإسنادها لغير مصادرها الحقيقية، كمن يتخلص من ملابس تضيق عليه، بتعليقها على شماعة هنا أو هناك، ليظل طول الوقت وكلما ضاق به الحال، يشير بالشجب والإدانة لتلك الشماعات، ويقعد هو مسترخياً مرتاح الضمير، مستمتعاً بلذة الشعور بالظلم والاضطهاد، وهي اللذة التي يدمنها الضعفاء في الروح خائرو الإرادة، لأنها تخلي مسئوليتهم عما يرزحون فيه من بؤس، وترجعه إلى قوى شريرة أو عوامل قاهرة لا يملكون إزاءها حيلة ولا دفعاً.
هكذا نجد الشعب المصري، المتورط في حياة عشوائية تخربها الإشكاليات التي تبدو له مستعصية على المعالجة، لديه شماعات من هذا القبيل بعدد ما يواجه من مشاكل.. لكل مشكلة لديه أسباب لا يرجع أيها إلى الشعب ذاته، وبالتالي فهي خارج نطاق مسئوليته الشخصية.. هي بالتحديد مسئولية هذا الآخر الشرير، الذي تتعدد تسمياته بتعدد مجالات البؤس والتهالك في مختلف مجالات الحياة المصرية.
إذا بدأنا بالجانب الاقتصادي من الفشل المصري (مع الاحترام لما تحاول المجموعة الوزارية الاقتصادية إنجازه)، فلا نكاد نجد أحداً يشير إلى ضعف إنتاجية الفرد وهزال تأهيله المعرفي والمهاري، وافتقاده للانضباط والجدية والإيمان بقيمة العمل.. وتفسخ وتنافر وتضاد مكونات الهيكل الاقتصادي ونظم وعلاقات الإنتاج، وتضخم الاقتصاد غير الرسمي والعشوائي.. لكننا سنجد أغلب الأصابع أو الحناجر الصارخة، تشير إلى آخر شرير، هو الفساد في رأس الحكم، رغم أن هذا الفساد المستشري بحق، هو جزء من فساد عام تتبناه القاعدة الجماهيرية في كل مناحي حياتها، فلا نكاد نجد مخلصاً في عمله، حتى ذلك المهني البسيط الذي نستعين به لإصلاح منزلي، غالباً ما يطير بما يطلبه من نقود، مقابل أداء هزيل قد يترتب عليه المزيد مما يحتاج إلى إصلاح.. تأثير 80 مليون فاسد صغير، أقوى تدميراً من مما تقترفه حفنة الفاسدين الكبار الذين يضمهم الحزب الوطني الديموقراطي العشوائي، فالأمر أشبه بسفينة ترشح مياه البحر من ملايين الثقوب الدقيقة في كل هيكلها، وهذا أخطر وأشد بلاء من إصابتها بفتحات كبيرة يسهل التعامل معها.. لا نجد أيضاً في صراخ الصارخين إشارة إلى ندرة الموارد الطبيعية للبلاد، تمهيداً للبحث في كيفية العثور على موارد جديدة، وكيفية الاستغلال الأمثل لما بين أيدينا من موارد.. في المقابل نسمع صراخاً وعويلاً مما تفعله بنا الرأسمالية التي نصر على أنها متوحشة، رغم أن التنين الصيني لم ينهض من جوعه وركوعه إلا بتبني السياسات الرأسمالية، وكذا فعلت النمور الأسيوية التي التحقت بها فيتنام، أسطورة اليساريين التي قهرت أمريكا وفق تصوراتهم.. ونسمع عن مؤامرة ضد الشعوب النامية (أو النائمة) اسمها العولمة، نتصورها اختراعاً غربياً صنع خصيصاً لإفقار شعوب تنعم طوال تاريخها بفقر مدقع.
في الجانب السياسي، نجد الصراخ المتمثل حالياً في مطالب التغيير السبعة، يدور حول مسألة التزوير في الانتخابات، سواء الرئاسية أو البرلمانية.. يعطي هذا انطباعاً أن التشكيلات المهزلة للمجالس النيابية المصرية على مدى الستة عقود الماضية، ترجع فقط لما تمارسه السلطة من تزوير، وأنه العقبة الوحيدة أمام جيوش جرارة من النواب الأكفاء الذين يمتلكون كل مقومات الوصول لكراسي البرلمان.. نردد هذا اللغو والإفك ونصدقه، رغم أننا جميعاً نعايش حقيقة الواقع المصري، ونعرف أن التزوير الذي تحترفه أجهزتنا الرسمية بالفعل، لا يفعل أكثر من ترجيح كفة شخص ردئ موال للحكام على أردياء كثيرين يتقدمون كمستقلين، إلى أن يجدوا فرصة ليعتمدهم النظام ضمن أذياله.. بل وربما ينصف التزوير الحكومي كفؤاً لا يمتلك مقومات الحشد الجماهيري اللازم للوصول للبرلمان، في مواجهة تجار مخدرات مادية أو دينية.. علاوة على أن احتراف التزوير ليس حكراً على الحكومة وأجهزتها، وإنما تقترفه الجماعة المحظورة والعائلات والقوى صاحبة النفوذ في مناطقها، ليبدو الأمر كما لو أن التزوير أحد معالم الهوية المصرية، لكنه في الأغلب لا ينحي صالح لحساب طالح، وإنما هي مباراة بين الطالحين، أما الصالحون فجلهم منزوين جانباً، لا حول لهم ولا قوة في إطار المعادلة المصرية السياسية والاجتماعية.. نعرف أن من يمتلك مقومات حشد الجماهير لانتخابه في مدننا وقرانا، ليس بأي حال الأكثر جدارة بالتمثيل النيابي، فهو إما عضو في الجماعة الإرهابية المحظورة، والذي لا يهتم عند وصوله للبرلمان إلا بمطاردة الفن والفنانين، ومحاربة حرية الفكر والمفكرين، والصراخ مناصرة للتنظيمات الإرهابية في المحيط الإقليمي.. أو هو من الغوغائيين الديماجوجيين الذي يلهبون حماس الجماهير بشعارات الستينات الجوفاء الحمقاء أمثال صاحبينا الحنجوريين، اللذين يحاول أحدهما ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية.. أو يكون من الرأسماليين الطفيليين، المستعدين لصرف ملايين الجنيهات لسوق الجماهير رائعة القابلية للارتشاء، بعشرين أو خمسين جنيهاً أو بصندوق مواد تموينية لصناديق الانتخاب، ليعوض بعد ذلك ما أنفق، عند تربعه على كرسي البرلمان ذي المكانة والحصانة.. أو يكون مرشح عائلة أو من كبارها، ولا يفقه السماء من العماء في السياسة أو في تمثيل الجماهير.
سؤال ساذج وبرئ نتوجه به إلى الجماعات والأحزاب التي تتحدث عن التزوير ومقاطعة الانتخابات: هل لديكم بالفعل شخصيات كفوءة تنتمي لأحزابكم، ولديها جماهيرية كفيلة بحصولها على كرسي النيابة، لو كفَّت الدولة عن تزوير الانتخابات؟.. هل سيادة الدكتور رئيس الحزب الديموقراطي الجديد المتحمس للمقاطعة ويجول داعياً لها، متأكد أنه شخصياً يمكنه الحصول على مكان في البرلمان في ظل انتخابات نزيهة؟.. الحالة في الحقيقة مزرية، ولا ترجع فقط إلى مجرد شماعة التزوير التقليدية.
إذا أتينا للحالة الطائفية الخطيرة والمتدهورة في مصر، فسنجد العديد من الشماعات، نصرف عن طريقها النظر عن عناصرها المتجذرة في ثقافتنا ونظمنا الاجتماعية والسياسية والقانونية، وعن تخاذل أو تواطؤ السلطة مع عوامل الاحتقان والتردي.. نسمع في الجانب المتأسلم أحاديث عن مؤامرة خارجية تتمثل في استقواء الأقباط بالخارج، وحديث عن أسلحة في كنائس، يعرف الجميع أن مرتاديها لهم قلوب فئران ترتعش من صقيع لازمها أربعة عشر قرناً، وأن متأسلماً واحداً هاجم منفرداً ثلاث كنائس بالإسكندرية خلال ساعتين من الزمان، قتل خلالها رجلاً، وأصاب الجميع بالفزع، ولم يجروء الآلاف الذين تكتظ بهم هذه الكنائس على دفع ضرره أو الإمساك به!!.. هي ترحيل لمسئولية التواطؤ بالمشاركة أو التشجيع أو الصمت، على ما يقترفه شيوخ التأسلم المسيطرين على أغلب المنابر الإسلامية، سواء المساجد أم الوسائل الإعلامية، موظفين إياها لبث الكراهية والعداء بين أبناء الوطن الواحد، ودفع العامة والغوغاء لأعمال استحلال وسلب وحرق وقتل لمواطنيهم الأقباط.
ونرى في الجانب المتأقبط شماعة ادعاء اختطاف البنات والسيدات المسيحيات لأسلمتهن إجبارياً، تغطي بها العائلات والكنيسة على الفشل الذريع في الرعاية الروحية والاجتماعية، وتغطي على عدم إنسانية ولامنطقية قوانين الأحوال الشخصية التي تصر عليها قيادات الكنيسة، والتي تجبر المأزومين على الهروب من الكنيسة والدين كبديل للانتحار!!
نجد أيضاً أنه في مواجهة تفشي وباء التأسلم السياسي، يلجأ المثقفون المصريون إلى شماعة اتهام الفكر الوهابي الوارد إلينا، والدخيل على ثقافتنا المصرية المتسامحة، متجاهلين ما نعرفه جميعاً، أن مصدر هذا الوباء ومدرسته الأولية هي جماعة الإخوان المسلمين المصرية الصميمة، والتي صدرت أفكارها وأيديولوجيتها المدمرة للعالم أجمع، وأن العقول المخططة والمنظرة للإرهاب هي عقول مصرية، بداية من المشنوق سيد قطب، حتى عمر عبد الرحمن وأيمن الظواهري، وأن اليد الخارجية تقتصر على التمويل المادي بالبترودولار.. هو إذن مجتمعنا وثقافتنا المصرية الراكدة إلى حد التعفن، ما مثل الرحم والمهد لإنجاب ورعاية وحش التأسلم السياسي، لنبلي به العالم بعد أن بلينا به أنفسنا، وما دور التمويل الخليجي إلا دور ثانوي يمد الوليد المصري بدماء الحياة والانتشار!!
في القضية الفلسطينية يعلق مثقفونا استعصاء الوصول إلى حل لها، على شماعة عنصرية إسرائيل وتهربها من السلام، رغم إدراكهم لما بدخيلة نفوسهم، وعدائهم الأبدي الأيديولوجي أو الديني للشعب اليهودي، وأملهم الأسطوري في إبادة اليهود أو إلقائهم في البحر، ورغم أن رفضهم لما يسمونه بالتطبيع يعطي الإسرائيليين نموذجاً سيئاً لجدوى اتفاقيات السلام مع العرب، ومدى التزامهم بما يقطعون على أنفسهم من عهود واتفاقيات، ولحقيقة ادعاء العرب قبولهم بما يسمونه السلام العادل، في حين أن هؤلاء يطالبون بالنكوث على اتفاقية السلام التي أعادت لمصر سيناء كاملة!!
سياسة الشماعات بالفعل سياسة رائعة، فهي تجعلنا على الدوام أبرياء في نظر أنفسنا.. ولا تتطلب منا أن نقوم بأي عمل أو تصحيح أو مراجعة.. فقط أن نَسُبَّ ونشجب وندين قوى وجهات خارجية، حتى وإن كانت النتيجة الطبيعية لهذه السياسة هي بقاء جميع مشاكلنا على حالها المستعصي على الحل، وكيف يتأتى حلها، مادمنا نحجم عن معالجة أسبابها، ونستمرئ تعليقها برقبة أقرب ضحية لتصوراتنا المريضة؟!!
الولايات المتحدة- نيوجرسي
[email protected]