هل يمكن لإنسان، مهما بلغ ذكائه وعبقريته، أن يقدم وصفاً علمياً دقيقاً لمفهوم الكائن المطلق الأول وماهيته وغايته وضرورته وأصله ومصيره وموقع تواجده؟ الجواب قطعاً سيكون بالنفي لأن ذلك ضرب من المستحيل. من هنا لا يمكن أن نعتبر كوننا المرئي، الذي لا نعرف غيره في الوقت الحاضر، هو الكائن المطلق الأول كما نوه بعض العلماء، بل هو مجرد إطار جامع لكل ما هو موجود وملحوظ وقابل للرصد والمشاهدة والمراقبة والحساب أو القياس. والحال أننا لو منحناه صفة quot; الكائنquot; فسوف نكون مرغمين على اعتباره عاقلاً ويمتلك وعياً ويفكر ويتصرف بنوايا مسبقة ومدروسة ومبرمجة وإرادة في القيادة والتوجيه، والحال أنه لا يوجد ما يجعلنا نفترض ذلك فضلاً عن تأكيده، إلا إذا آمنا بمقولة الكون هو الله والله هو الكون التي قال بها البعض للخروج من معضلة علة الصدور الأولى للموجودات. إلى ذلك، يتفق العلماء والنخب المثقفة في العالم، على أن العلم لا يقدم، حتى يومنا هذا، سوى كم ضعيف من المعلومات والمعرفة العلمية الدقيقة عن الكون المرئي وأسراره الغامضة، رغم التقدم التكنولوجي المذهل المنجز بالنسبة لعقولنا ومستوى إدراكنا القاصر اليوم، لذلك نحن لا نتجرأ في تجاوز الواقع الممكن إدراكه بحواسنا المحدودة، كما يتعذر على العلم حالياً أن يعرض ما يتجاوز المعرفة اليقينية الملموسة، أو الولوج إلى الكم العلمي اللامرئي المعروف بإسم المعارف الخفية، والذي يفلت منا ولا يمكننا تصوره أو استيعابه، حتى لو دمغناه بالرؤية الميتافيزيقية. وفي نفس الوقت لا يجوز لنا وضع فرضيات ونظريات فنتطازية لن يكون بوسعنا إثبات صحتها مختبرياً، لا الآن ولا في المستقبل المنظور. فهناك من يترصد لاستغلال الفرضيات ذات الظاهر الميتافيزيقي للتبشير بمعتقدات جديدة أو للتدليل على صحة معتقدات قديمة قابلة للتأويل. وحتى لو اعتمدنا مفهوم إن quot; الكون المرئي هو الكائن المطلق الأولquot; وأعتبرناه صحيحاً من الناحية الفكرية والنظرية الافتراضية، إلا أنه سوف يبدو مفهوماً تجريدياً يكون بمثابة البديل للمؤمنين الذين خاب أملهم من الأديان الكلاسيكية أو التقليدية لا سيما الأديان السماوية، كما كان بعض الفلاسفة الإلهيين يعتقدون من أمثال هيبرت فون شيربوري Herbert Von Cherbur y وتولاند Toland وفولتير Voltaire،على سبيل المثال لا الحصر، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، عندما كانت الفكرة مغرية إلا أنها لم تلق صدى كبيراً بين الأتباع. لذلك اختار البعض الانحياز نحو صيغة الإلحاد الوضعي أو الإيجابي Lrsquo;atheacute;isme positif أي عدم التفكير بالكائن ألأعلى دون إنكاره بالضرورة، والالتفات للإنسان والمجتمع الإنساني أي الإنسانية الأكثر قرباً للإدراك العقلي والقادرة على تقديم بعض الإجابات عما ينتظره البشر وما يطرحونه على أنفسهم من تساؤلات. وقد لخص المفكر ماكس نوردوMax Nordeau هذه الحالة بجملته الشهيرة التي تقول:quot; إن الله هو الإسم الذي أطلقه البشر على جهلهم منذ البداية وإلى يوم الناس هذاquot;. وقال بعضهم متندراً بشأن وصف الإله :quot; أنه مخالف لكل ما يخطر على بال بشرquot;. وبما أن الإنسان يخاف من المجهول فقد اقنع نفسه بأفضلية الإيمان بشيء ما بدلاً من عدم الإيمان بشيء وفق مقولة المنفعة الذاتية التي تقول:quot; إذا كان الله موجوداً فإن إيماني به سينفعني وإذا لم يكن موجوداً فإن إيماني به لن يضرنيquot;. أما من يمتلك ذهنية عقلانية أو علمية فإن لديه مقاربة مختلفة لموضوع الإلوهية لأنه لا يعتقد ولا يصدق بما تقوله الأديان عن الله والآخرة والحلال والحرام وغير ذلك من الخزعبلات والتناقضات، فالصورة التي لديه عن المهندس أو العقل الأول متسامية وأرقى بكثير من صورة الله الدينية التقليدية، ووسيلته لمعالجة هذه المسألة الوجودية هي العلم وأدواته ونظرياته وقوانينه، وكان العالم الفرنسي لوي باستور Louis Pasteur يقول : quot; إن القليل من العلم يبعدك عن الله والكثير منه يقربك منهquot;. والمقصود هنا بالعلم باعتباره مجموعة المعارف النظرية والعملية في كل مجال من مجالات النشاط الإنساني وكذلك بشأن جميع الظواهر والأشياء. وإن هذه المعارف مبنية على عدد من المبادئ البديهية التي يمكن إثبات صحتها وصلاحيتها، إما من خلال طرق تفكير وتأمل قابلة للتدقيق عبر التجارب المختبرية وغيرها، أو من خلال التأمل والتفكير والتدبر النظري والفلسفي. فيوجد هناك من العلوم والعلماء والمتخصصون العلميون بقدر ما يوجد من مجالات خاضعة للدراسة، حيث أن المناهج والوسائل والطرق العامة المستخدمة للحصول على تلك المعارف متماثلة. فالمعرفة الموصوفة بالعلمية تكون غالباً خاضعة للتدقيق من خلال الوقائع والحقائق والمشاهدات والتجارب بحيث تكون النتائج دائماً موضوعية. فالعلم يعارض دائماً الرأي الذي يعكس تأكيداً كيفياً واعتباطياً أو تعسفياً وذاتياً لأي حدث أو ظاهرة، لأن مثل هذا الرأي غالباً ما يكون مبنياً على شعور غمامي، عام وغامض، عن الواقع بدون معرفة علمية مثبتة، سواء أكانت تجريدية، كالرياضيات والمنطق، أو تجريبية كالفيزياء والكيمياء والأحياء أو البيولوجيا والطبيعة. والحال أن الأديان بمجملها تقدم إجابات قطعية لاتقبل الشك أو الطعن حول الطبيعة وأصل الحياة ومصير الإنسان ونشوء الكون، وتعطي إجابات ميتافيزيقية وغيبية مستمدة من نصوص يدعى أنها مقدسة وأزلية تنقل كلام الله ومنزلة من السماء، وبالتالي فهي إجابات تستلهم مقولة المصدر الأول اللامتناهي القدرة والمجهول الماهية والذي لا نعرف عنه سوى الصورة الممسوخة التي ترسمها عنه الأديان وتدمغه بصفات متناقضة. إن اللجوء إلى التفكير العقلاني والتحرر التدريجي من هيمنة الفكر الديني، الذي استغرق قرون عديدة، أتاح إمكانية تقهقر الرؤية الميتافيزيقية أمام النظريات التفسيرية المستندة إلى برهنة و طرق تفكير واستدلالات وحجج وملاحظات منطقية، والتوصل إلى عملية استقراء واستنتاج منطقي وعقلي مقبولة وإن كانت في بعض الأحيان تصطبغ بصيغة نظرية محض، وتفكرّية غير قابلة باستمرار للتجريب. ثم دخلت العلوم المعاصرة في قرون التنوير في مرحلة الحداثة، ووعت ما كان يعتبر آنذاك مستحيلاً بسبب وعي العلماء بمحدودية القدرة الإنسانية في اختراق المجهول نتيجة للظروف المحيطة بها في ذلك الوقت، والتي تمنعها من اكتساب المعارف المتطورة والمتقدمة فيما يتعدى التجربة، والوقوع في حالة من الخيلاء والغرور بشأن قدرتها على البحث عن المطلق. وفي خضم الصراع والتنافس بين الدين والعلم، تمكن هذا الأخير، بفضل صرامته وطرقه ومناهجه وتواضع من كسب الجولة، لأنه لم يدع آنذاك بتقديم إجابات قاطعة وناجعة لكل ما هو مطروح في الساحة الفكرية وفي نفس الوقت نجح العلم في تقديم نتائج ملموسة وقابلة للتدقيق تجريبياً ومختبرياً، ونجم عن ذلك قبول واسع للعديد من تلك الإجابات رغم الحرب الشعواء التي شنها دعاة الخلق الإلهي المباشر Les creacute;ationnistes ضد المحاولات العلمية لدحض المسلمات الدينية الغيبية غير المعقولة وغير المقبولة منطقياً، مما أرغم المؤسسات الدينية على التراجع والتقوقع في مختلف مراحل الصراع، وإعادة النظر في تأويلاتها للنصوص المقدسة التي استندت إليها واعتبرت أن الباطل لا يمكن أن يمسها لا من فوق ولا من تحت، فهي الحق بذاته والحقيقة بعينها بالنسبة لهم، في محاولة يائسة للتوفيق بينها وبين النتائج العلمية. ففضول البشر ورغبتهم وسعيهم لمعرفة ما يدور حولهم، خاصة تلك المساءل التي لم يتمكن العلم لحد الآن من تقديم إجابات ناجعة عنها، ازدادت وتزدادا وتتسع كل يوم، مما شكل أرضية خصبة للأديان والميتافيزيقيا الدينية، التي تتغذى عادة من جهل الإنسان وتستغل عجزه الفكري، لاستعادة بعض مواقعها التي خسرتها في حربها مع العلم والمنطق العلمي. من هنا تعايشت رؤيتان: الأولى دينية، إلهية المصدر، مليئة بالخرافات والأعاجيب والأساطير والمعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة، والثانية علمية، لكنها شبه تجريدية في العديد من جوانبها، لأنها تستند إلى مفهوم الصدفة، وقد علق الكاتب الوجودي الفرنسي البير كامو Albert Camus في رواية السقوط La chute :quot; إن الإلوهية المنطقية الوحيدة هي الصدفةquot;، وقد سبقه بقرون الفيلسوف الإغريقي ديموقريطس Deacute;mocrite 460-370 قبل الميلاد بالقول:quot; إن كل ما يوجد في الكون هو ثمرة للصدفة والضرورةquot;. بينما علق العالم الفيزيائي العبقري ألبرت آينشتين Albert Einstein في منتصف القرن الماضي قائلاً :quot; إن الصدفة هي الله وهو يتجول متخفياًquot;. بينما ذكر الكاتب الفرنسي أناتول فرانس Anatole France 1844-1924في كتابه quot; حديقة أبيقورLe Jardin drsquo;Epicure الصادر سنة 1894 :quot; ينبغي علينا في هذه الحياة التمييز بوضوح بين الأشياء ومنح الصدفة حقها، فالصدفة في نهاية المطاف هي الله ذاته، و هي أيضاً الإسم السري لله عندما لا يريد هذا الأخيرة التوقيع باسمه الصريحquot;. واختتم الكاتب الفرنسي البيرت جاكار Albert Jacquard في كتابه quot; العلم لغير المتخصصين La science agrave; lrsquo;usage des non scientifiques الصادر سنة 2003 : إن حساب إحتمالية حدث ما لا معنى لها طالما وقع هذا الحدث. فظهور الحياة، والديناصورات، والإنسان، وغيرها من الكائنات الحية، جاء نتيجة لعدد كبير من التفرعات والتشعبات أو التحولات في سياق الصيرورة التي حدثت على كوكبنا الأرض، وكل واحدة من هذه التفرعات والتحولات حدثت نتيجة أو ثمرة لعدد مماثل من الممكنات والاحتمالات، ولكل واحدة من الممكنات إحتمالية سواء أكانت ضعيفة أو قوية، وتطلب الأمر في نهاية المطاف أن تتحقق إحدى تلك الممكنات، البعض يقول أنها حدثت بفضل الصدفة والبعض الآخر يقول بفضل تدخل اليد الإلهيةquot;. وأخيراً نذكر رأي الفيلسوف الألماني فردريك نيتشة 1844-1900 Friedrich Nietzsche في كتابهquot;المسيح الدجالquot; Lrsquo;Anteacute;christ :quot; حتى يكون لدينا أقل حس من التقوى والورع أو التدين بإله يشفينا من مرض أو وعكة صحية في الوقت اللازم، أو يخبرنا بضرورة الركوب في عربة في لحظة هطول وابل من الأمطار ووقوع الطوفان، سيبدو لنا كأنه إله عبثي يجب تحطيمه حتى لو كان موجوداً بالفعل، فهو في هذه الحالة ليس سوى ساعي بريد ومروج للتنجيمات ولكشف الطالع حسب بروج السماء، وهي في واقع الأمر ليس سوى كلمة تصف أغبى الصدف، وقد مات مثل هذا الإله في رؤوس وأذهان العقلاء quot;. وبهذا الصدد كان أحد أتباع الفيلسوف ديموقريطس في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو لوسيب دوميليه Leucippe de milet يقول :quot; لا شيء يحدث بالصدفة إنما يحصل كل شيء بسبب ما أو لضرورة ماquot; وهي المقولة التي دفعت العالم الفرنسي جاك مونود Jacques Monod لوضع كتابه الشهير quot; الصدفة والضرورة Le Hasard et La Neacute;cessiteacute; quot; الذي بحث فيه أساسات التطور البيولوجي وفق ما طرحته نظرية التطور والانتخاب الطبيعي لتشارلس داروين Charles Darwin في كتابه quot; أصل الأنواع quot; Lrsquo; Origine des Espegrave;ces quot;، الذي أثار ضجة مازالت تداعياتها قائمة إلى اليوم في الجدل الدائر بين المؤمنين والملحدين، في حين أن البيولوجيا علم الأحياء يؤكد مسلمة قانون فيزيائي يقول : أن النظام يجب أن ينبثق دائماً من نظام سابق له وليس من فوضى أو من العدم كما يدعي الماديون، وعكس ما يدعيه جاك مونود. فالمتدينون يحرصون، ويبذلون كل ما في وسعهم، لإثبات وجود الله لأنه سبب وجودهم وهدفهم الأسمى، فلو ثبت علمياً وبالبرهان العلمي القاطع عدم وجود الله فهذا سيعني نهاية الأديان والمؤسسات الدينية ونسف التاريخ الديني من جذوره، بينما يسعى المادين وبكل ما لديهم من قوة للاستغناء عن فرضية الله وما يترتب عليها من أنظمية ثيوقراطية.
يتبع

الجزء الأول

[email protected]