كيف مر هذا (الكتاب) مرور الكرام؟.. هل هذا (مقصود)، أم نتيجة للسهو وعدم اليقظة بما يجري حولنا، أم بسبب الغيبوبة الفكرية التي نعيشها ؟.. ما علاقة هذا الكتاب بمستقبل الديمقراطية في المنطقة، ووضع (الأقليات) تحديدا في الشرق الأوسط، الذي يعاد صياغته وتشكيل ملامحه من جديد؟.
قبل أن يعلن quot;نتانياهوquot; رسميا: إسرائيل (كدولة للشعب اليهودي)، صدرت الترجمة العربية لهذا الكتاب المثير quot; اختراع الشعب اليهودي quot; 2010، لمؤلفه البروفيسور quot; شلومو زاند quot; أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، قام بالترجمة سعيد عياش ودققها أسعد زعبي وراجعها وقدّم لها أنطوان شلحت، عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية quot;مدارquot;، ومنشورات المكتبة الأهلية في عمان.
صدر هذا الكتاب لأول مرة باللغة العبرية عام 2008، وأثار مناقشات عاصفة لم تهدأ حتي اليوم، في إسرائيل والعالم، حيث ترجم إلي لغات عديدة. قال عنه المؤرخ المعروف quot; إريك هوبسباوم quot;، حسبما جاء في موقع (quot; عرب 48 quot;.. 30 سبتمبر عام 2010) : quot; إنه بمثابة تمرين ضروري في حالة إسرائيل من أجل تفكيك الخرافة القومية التاريخية، والدعوة إلي إسرائيل التي يتشارك فيها جميع سكانها علي قدم المساواةquot;.
أمّا المؤرخ quot; توني جادت quot; فأشار إلي أن المؤلف: quot; أعاد بناء تاريخ اليهود وقام بإدماجه في القصة العامة للبشرية، بدلا من أسطورة الأمة الفريدة والمصير الخاص: الشعب المطرود، المعزول، التائه، والعائد أخيرا إلي وطنه الحقيقي.
خلاصة الكتاب، أن اليهود الذين يعيشون في إسرائيل اليوم، وفي أماكن أخري من العالم ليسوا علي الإطلاق أحفاد quot;الشعب القديمquot; الذي عاش في quot;مملكة يهوداquot; إبان فترة quot;الهيكل الثانيquot;، وكما يقول شلومو زاند: quot; فإن أصولهم تعود إلي شعوب متعددة اعتنقت اليهودية علي مرّ التاريخ في أماكن متفرقة من حوض البحر المتوسط والمناطق المجاورة، وتشمل أيضاً يهود اليمن (بقايا مملكة حمير في شبه الجزيرة العربية التي اعتنقت اليهودية في القرن الرابع الميلادي) ويهود أوروبا الشرقية quot;الأشكينازquot;، (وهم من بقايا مملكة الخزر البربرية التي اعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي).
في مقابلة حديثة مع صحيفة quot;فريميا نوفوستيquot; الروسية، قال البروفيسور شلومو زاند: ان اسرائيل عندما تُـعرّف نفسها بـquot;الدولة اليهوديةquot; فإنها لا يمكن أن تكون quot;دولةquot; لجميع مواطنيها: إن خمسة وعشرين بالمائة من سكانها ليسوا يهودا. وانطلاقا من ذلك يتعين علىها أن تعلن أنها جمهورية يتمتع جميع مواطنيها بحقوق متساوية بغض النظر عن دينهم، وفصل الدين عن الدولة بشكل نهائي.
quot;شلومو زاندquot; أكد أيضا: أن الصهاينة الذين قَـدِموا إلى فلسطين في القرن التاسع عشر أعلنوا صراحة: أن الفلاحين العرب المحليين هم أحفاد اليهود القدامى. وبناء على تأكيد الصهاينة أنفسهم، ليس من المستبعد أن يكون أحد نشطاء حركة حماس في الخليل أقرب نسبا لليهود القدامى من أي يهودي إسرائيلي معاصر.
ويستطرد: أن قسما كبيرا من سكان فلسطين اعتنقوا الإسلام بداية القرن السابع الميلادي لأسباب مقنعة ومبررات قوية. ذلك أن الإسلام، وخلافا للمسيحية لا يقر بوجود (الإله المتجسد)، الأمر الذ ي يجعله أقرب لليهودي من المسيحية. وأما السبب الثاني فيكمن في أن الإسلام يُـعفي كل من يعتنقه من الضرائب (الجزية) وهذا الأمر بالغ الأهمية.
البروفيسور شلومو زاند أنهي مقابلته مع صحفية quot; فريميا نوفوستي quot; الروسية بهذه العبارة الجازمة: quot; إذا عُرض على الإسرائيليين في الوقت الراهن أن يعتنقوا الإسلام مقابل إعفائهم من الضرائب لوافق أكثر من خمسين بالمائة منهم دون ترددquot;.
في تصوري أن رصد وتحليل (ردود الأفعال المختلفة) علي هذا الكتاب ndash; ايجابا أو سلبا، مدحا أو قدحا، نقدا أم تجاهلا - أهم بكثير من مضمونه العلمي الجاد، لأنه يبدو وكأن هناك شبه موافقة ضمنية في المنطقة علي إقامة الدولة الدينية (اليهودية) في إسرائيل، خاصة وأن اعطاء شرعية (دينية) لإسرائيل، معناه تشجيع النظم السياسة (البين بين) والحركات الدينية علي اقامة (دول دينية مماثلة)، علي حساب (الدولة المدنية) التي تحتضن كافة الأقليات والأديان والأعراق، التي تشكل المكون الشرقي الأصيل للمنطقة.
هذا هو السيناريو الأكبر والأخطر الذي بدأ يتحقق بالفعل مع المسيحيين الشرقيين علي وجه الخصوص، منذ ليلة عيد الميلاد في نجع حمادي بصعيد مصر عام 2010 مرورا بمجزرة كنيسة quot; سيدة النجاة quot; في العراق الشهر الماضي، وصولا لحرق منازل الأقباط في فجر عيد الأضحي بمحافظة قنا .. والبقية تأتي...
لقد طرحت في منتصف التسعينيات من القرن العشرين، عقب المؤتمر العالمي الثاني لحقوق الإنسان الذي انعقد في فيينا فيما بين 14 - 26 يونيو عام 1993 والذي حضرته 171 دولة،
ثلاث سيناريوهات بالنسبة لمشكلة الأقليات في هذه المنطقة التعسة، الأول: تغيير الجغرافيا بالتقسيم أو تعديل الحدود، والثاني: تغيير البشر بالانصهار القسري أو الإبادة أو الهجرة، والثالث: تغيير المؤسسات بجعلها أكثر ديمقراطية عن طريق ترسيخ الدولة المدنية.
لكن حركة الأحداث في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أثبتت أن السيناريو الثالث سقط بالفعل وبلا رجعة، لأنه لا يمكن أن (تتواجد أو تبني) الدولة المدنية (الديمقراطية) في ظل الدولة الدينية، التي لا تؤمن بحق جميع المواطنين على قدم المساواة، بل أن تحقيق الدولة الدينية يقوم علي (تدمير) الدولة المدنية أولا، وهو ما يدفع ثمنه الباهظ ويعاني منه المسيحيون الشرقيون يوما بعد يوم.