في واحدة من أغرب و أعجب وقائع الأيام العراقية الراهنة تبرز ظاهرة الطقوس الدينية لتضرب أرقاما قياسية و غير مسبوقة في التاريخ العراقي المعاصر و تؤشر لأكثر من علامة إستفهام في بلد محطم يشكو من نقص الخدمات و تدهورها، و فقدان الأمن المريع، وظاهرة اللصوصية المستشرية على المستوى السلطوي و التحديات الخطيرة التي تواجه مستقبل ووحدة البلد إضافة للمشاريع الدولية و الإقليمية الخطيرة، فيما قطاعات كبيرة و كثيرة من شعبه تم إلهاؤها من خلال بعض المرجعيات السياسية و الدينية في الإغراق في طقوس و ممارسات دينية كانت معروفة منذ مئات السنين ولكنها لم تصل أبدا للدرجة الهستيرية القائمة حاليا، فالبلد بأسره قد تعرض للشلل شبه التام و أغلقت الأسواق و المحلات التجارية و عطلت الدوائر الحكومية و توقفت الحياة من أجل إحياء إربعينية الإمام الحسين ( رض ) و الذي أستشهد وصحبه في كربلاء في موقعة ( الطف ) المعروفة عام 61 هجرية أي قبل أكثر من 1400 عام، وطبعا أستشهد بعد الإمام الحسين أجيال كثيرة و طويلة من الثوار ضد الحكم الأموي و العباسي، فعبد الله بن الزبير ( رض ) مثلا قتل و احرقت جثته و علقت كذبيحة في الكعبة المشرفة و كذلك الحال مع الإمام زيد بن علي بن الحسين ( رض ) الذي صلب في كناسة الكوفة أيام هشام بن عبد الملك و مآسي التاريخ العربي و الإسلامي لم تتوقف أبدا بل ظل القتل و سفك الدماء هو السمة العامة للأسف لتاريخنا وهي قضية إنسانية عامة، وبلاشك فإن لإستشهاد الإمام الحسين وصحبه و اهله الكرام الميامين دلالات إنسانية و دينية عميقة و هي تعبير حقيقي عن رفض الظلم و الإرهاب و دعوة صريحة للعدل و الإحسان إلا أن ما يحصل قد تجاوز كل تلك ألأمور و البديهيات المعروفة و أخرج قضية الإمام الحسين لمسائل و تفرعات غريبة عن فحوى الرسالة الإيمانية لسيد الشهداء بعد أن ادخلت السياسة قاتلها الله كطرف غير موضوعي و لا محايد في تلك القضية! يقينا أنه لا أحد من بني أمية قد بقي على قيد الحياة حاليا ليتم القصاص منه و معاقبته بجريرة ما قام به أجداده!!! لأن الخليفة العباسي الأول أبو العباس السفاح تكفل بالإنتقام بعد أن أباد معظم العائلة الأموية في الحفلة المعروفة تاريخيا و التي كررها محمد علي باشا والي مصر في مذبحة القلعة ضد المماليك بداية القرن التاسع عشر!! فتاريخ القمع العربي حافل و مريع و يستلهم التجارب!، كما أن اهل بيت النبوة سلام الله عليهم أجمعين قد مروا بعد ذلك بمحن و تقلبات خلال العصور اللاحقة وهذه ألأمور من سنة الحياة، ولكن الفوضى العارمة في الشارع العراقي حاليا لا تعكس في رأيي حالة إيمانية بقدر ماتعكس حالة ضياع شعبي فوضوي مريع بعد أن عزل العقل على جنب و أتيح المجال للمتخلفين بأن يقودوا الشارع العراقي و تلك لعمري معضلة و مهزلة، ترى ماذا يحصل حقا لو أن تلك الجموع المليونية إستغلت طاقاتها الإنسانية الخلاقة وحبها للحسين و أهل البيت في تحسين أوضاعها و في تنظيف بيوتها و شوارع العراق و في بناء و تعبيد ما خربته الحروب الطويلة و في إعادة زراعة النخيل المنقرضة أو التي في طريقها للإنقراض أو في البناء الفعلي لعيون أهل البيت و من أجلهم و ليس من جل الحكومة الا يكون حال العراق أفضل بكثير؟ ماذا يفيد اللطم و المشي لمئات الكيلومترات؟ أليس من الأفضل أن تتوجه جماهير المؤمنين و المحرومين لمحاصرة اللصوص و القتلة الذين أشاعوا الفتن و سرقوا العراق و حولوا ثرواته لمصالحهم الشخصية و أبتنوا القلاع و القصور على ضفاف التايمز و أمتلكوا المزارع في الجنوب الفرنسي و تملكوا المنشآت السياحية في البحر الميت و دبي و غيرها من الأمصار و البلدان؟ أين توارى العقل حتى أصبحت الطقوس التي تعيد ذكريات الماضي الذي إنقضى و لن يعود مقدمة على مآسي الحاضر المفجعة؟ أليس عيبا أن نرى كل مظاهر التخلف الشعبي السائدة بينما العراق يعوم على بحيرات من النفط لم يقدر لعوائدها أن تنعكس أبدا على حال الشعب العراقي الذي ترك العمل و الإنتاج و الزرع و الضرع و أنغمس في مسيرات مليونية لن تحسن واقعه و لن تغير ماضيه و لن تدفع أبدا لتطوير مستقبله، بالقطع لسنا ضد الطقوس و الممارسات الدينية و لكننا نستغرب من هذا الزحف الجماهيري العارم الضائع التائه الذي يلعن حكام الماضي الظالمين و يترك لصوص الحاضر في غيهم يعمهون!! وفي شفطهم يسرحون و يمرحون!! و أعتقد أن القصد واضح و صريح و معروف و لا حاجة تدعوني للإفاضة و التوضيح أكثر، و لكن مع كل النوايا الشعبية الإيمانية الصادقة برز من يدعو للفتنة للأسف و برزت الإدعاءات المذهبية المغالية و المتطرفة و العجيب أنني سمعت من على الفضائية العراقية يوم السادس من فبراير الحالي رأيا غريبا أطلقه أحدهم من خلال الفضائية العراقية وهي محطة الدولة العراقية الرسمية يعلن فيه صاحبه من أن زيارة كربلاء أوفى و أهم و اقدس من زيارة مكة المكرمة!!بربكم أهذا رأي يقال من فضائية الدولة الرسمية؟ و من أين جاء القائل بهذا الإستنتاج الخرافي؟ الله أعلم و لكنه حديث الفتنة الذي ما كان ينبغي أن يمر لربما لم يسمع هذا الحديث الكثير من الناس و لكنه فضيحة حقيقية و مؤسفة فلا حول و لا قوة إلا بالله، و طبعا لعب بعض رجال الدين من المهيجين للجماهير دورا مهما في ( الهوسة الشعبية ) فقد دعا الشيخ المغالي و المتطرف بأفكاره و رواياته المدعو ( عبد الحميد المهاجر ) وهو واحد من أكبر الغلاة العراقيين جميعا للخروج نحو كربلاء فلا شيء أهم من ذلك؟ و يبدو أن الشعبية التي يحظى بها هذا الشيخ الذي أقام معظم حياته في الشام و الخليج قد جعلته رقما صعبا في الهوجة العراقية الحالية!!.. العراق عامر و حافل بمآسي التاريخ و مصائب الحاضر و يبدو أن الفوضى القائمة فيه حاليا قد تتبلور عن شيء ما وفقا لنظرية الفوضى الخلاقة لطيبة الذكر كونداليزا رايس!! و لكنها فوضى لن تخلق إبداعات بل ستعيدنا لعصر ( التوابين ) أي لزمن مروان بن الحكم.. و سيبقى ( اللطم ) سيد الموقف في العراق، حتى يقرر الله أمرا كان مفعولا!!

[email protected]