لا أدري حتّامَ سيظلّ العرب

مغرمين بتقليد التقليعات الغربيّة. لن أتحدّث في هذه المقالة عن الفنون بجميع مجالاتها ولا عن الملبس أو المشرب، فكلّ هذه الأمور صارت واضحة للعيان. فعلى ما يبدو فلقد أضحى العرب مغرمين بقشور الحضارة الغربية دون لبّها، أمّا كلّ ما يتعلّق بالأمور الجوهرية المتمثّلة بالحريّة الفكريّة وحريّة الفرد ومساواة الرجل والمرأة والديمقراطية وتداول السلطة عبر الاقتراع الحرّ وفصل الدين عن الدولة فإنّ العرب لا يقربون كلّ هذه الأمور ولا يحاولون تقليدها أبدًا، وإذا حاولوا فإنّ هذه التّقليدات تأتي بصورة مشوّهة ومضحكة تكشف عن هزل التّقليد. وما من شكّ في أنّ سلطات الاستبداد العربية على جميع تقليعاتها التّوريثيّة من سلطنات وإمارات، من ممالك وجمهوريات إلى آخر قائمة دول الأفخاذ والبطون، تفسح للعامّة من النّاس، عبر فضائيّات التّجهيل العربيّة، أن تتسلّى بهذه التقليعات السطحيّة الغربيّة، بشرط أن لا يقرب النّاس ما ينفع النّاس وما يمكث في الأرض.
وفي هذه المقالة سأتحدّث عمّا يُسمّى بـ quot;عيد الحبquot; الّذي يتسلّى به الكثير من العرب والمسلمين. ولكن، وقبل أن أتطرّق إلى هذه المسألة، بودّي أن أقول بأنّي لست ضدّ الحبّ بأيّ حال من الأحوال، بل على العكس من ذلك تمامًا. غير أنّ ما يثير حفيظة المرء في هذه القضيّة هو كلّ هذا الهراء الّذي ينصبّ من جعبة هؤلاء الجهلة السّطحيّين الّذين يدّعون اللّيبراليّة والانفتاح والحريّة، على مرأى ومسمع النّاس في هذه البقعة من الأرض، بينما غالبيّة هؤلاء هم أبعد ما يكونون عن جوهر هذه الحريّة واللّيبراليّة، إنّما اتّخذوها شعارًا يطلقونه كيفما اتّفق.
تحضرتي في هذا السّياق طرفة، وهي حكاية حقيقيّة، روتها على مسامعي صديقة أميركيّة من أصل فلسطيني. حكت لي أنّ والدها كان يدّعي اللّيبرالية ويتظاهر باللّيبراليّة أمام المجتمع الأميركي وما إلى ذلك من هذه الشعارات، وقد كانت تعتقد أنّه كذلك حقًّا حتّى دعت صديقها لزيارتها في البيت والتعرّف على أهلها. صديقها الأميركي كان من الأميركيين السود، وبعد أن غادر الصديق البيت هبّ والدها غاضبًا زاعقًا في وجهها: quot;نوو عبيد! نوو عبيدquot;. وهكذا ذهبت ليبراليّته أدراج الرياح ولم يتبقّ منها شيء، وطفت على السطح وعلى وجهه عنصريّته الكامنة فيه.
ونعود إلى عيد الحبّ. لا أدري لماذا يصرّ هؤلاء النّفر من العرب على الأخذ بتقاليد أجنبيّة تتأسّس أصلاً على جذور قدّيسين مسيحيّين. فعيد الحبّ هذا له علاقة بـquot;القدّيس ڤالنتاينquot; أو قدّيسين آخرين بهذا الاسم، وقد نفهم أنّ العالم الغربي أو العالم المسيحي على العموم يحتفل بهذا اليوم وبالقدّيس ڤالنتاين، لما له من علاقة وطيدة به. لكن، ما الّذي يربط العربي، والمسلم على وجه الخصوص، بالقدّيس ڤالنتاين أو غيره من القدّيسين؟
وأعود وأقول مؤكّدًا أنّي لستُ ضدّ أن يحتفل العرب والمسلمون بعيد الحبّ، بعيد القدّيس ڤالنتاين أو غيره، فهذا شأنهم وليقلّدوا من يشاؤون وما يشاؤون. لكن، في الوقت ذاته يجب أن يدركوا جذور هذه التّقاليد وألاّ يأخذوا بسطحيّاتها. غير أنّ الّذي أدعو إليه هو أن يؤسّس العرب، والمسلمون على وجه التّحديد، طقوسهم على حضارتهم هم. فللعرب أعيادهم وللعرب حبّهم، وللعرب آلهة حبّهم، وما عليهم إلاّ أن يؤسّسوا عيدًا للحبّ مؤسّسًا على هذه الحضارة، لكي لا يظهروا كمقلّدين فقط للحضارات الأخرى، ولكي لا يظلّوا معزولين عن جذورهم الحضاريّة.

عيد الحبّ العربيّ:
وها أنذا أدعو إلى إحياء الحبّ العربيّ الأصيل، وإلى الاحتفال بعيد الحب العربيّ المؤسّس على الحضارة العربيّة الجامعة لكلّ العرب على اختلاف طوائفهم ومللهم ونحلهم، وليكن هذا العيد في الثامن والعشرين من شباط كلّ عام. إنّه عيد quot;إساف ونائلةquot; أو quot;عيد الحبّ العربيّquot;. ولمن لا يعرف حكايتهما، فها نحن نبسطها على مرأى ومسمع القرّاء.
يذكر الأخباريّون العرب قصّة إساف ونائلة ويجمعون على أنّهما كانا صنمين في الكعبة، أو في موقعي الصّفا والمروة. وإساف هو ابن عمرو الجرهمي ونائلة هي بنت سهيل الجرهميّة، وقد كانا قد أحبّا بعضهما البعض، فجاء إساف خاطبًا ايّاها من أبيها فرفض هذا، فتواعدا على أن يلتقيا في الكعبة في موسم الحجّ، وكان كذلك والتهبّ عشقهما بينما كانا في الكعبة، فضمّها وقبّلها، أو قيل غير ذلك. ثمّ تضيف الرّوايات أنّهما مُسخا حجرين، صنمين، وقد صار العرب يعبدونهما، ويتمسّحون بهما ويلتمسونهما.quot; (حول قصّة إساف ونائلة أنظر: أخبار مكّة للأزرقي: ج 1، 155-162؛ مغازي الواقدي: ج 1، 841؛ الملل والنحل للشهرستاني: ج 2، 231، 273؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 2، 177-178؛ معارج القبول للحكمي: ج 2، 465).
وعلى الرّغم من تحطيم أصنام الكعبة، فلم تختف طقوس عبادة quot;إساف ونائلةquot; بعد الإسلام، إنّما تمّ استيعاب هذه الطّقوس حيث انتقلت وحفظت عبر طقوس السعي بين الصّفا والمروة. فقد ذكرت الروايات: quot;وقيل إن اسم الصّفا ذكرٌ بإساف، وهو صنم كان عليه، مذكر الاسم. وأُنّثت المروة بنائلة، وهو صنم كان عليه، مؤنث الاسم.quot; (النكت والعيون للماوردي: ج 1، 111). وهكذا نرى أنّ العرب لا ينقصهم تراث له علاقة بالحبّ.
إذن، فليتمّ إحياء عيد الحبّ العربيّ، quot;عيد إساف ونائلةquot;، وليكن الثامن والعشرين من شباط الآزف عيدًا عربيًّا خالصًا للحبّ. هكذا فقط بوسعنا أن نؤسّس تقليدًا، لعيد عربيّ جديد، مبنيًّا على جذور حضاريّة عربيّة تليدة. أليس كذلك؟

والعقل وليّ التوفيق.
***