قبل اثني عشر عاما طرح العالم المصري الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء احمد زويل مشروعا طموحا يضع مصر المترهلة والمتراجعة بسرعة الصاروخ على طريق المعرفة والنهوض من جديد، طرح الرجل مشروعا لبناء قاعدة علمية تكنولوجية تسهم في تقدم مصر، ولقي ذلك ترحيبا من القيادة السياسية، ومنحت له الأرض، ووقع الاختيار على مدينة السادس من أكتوبر في أطراف العاصمة، ليضع حجر الأساس للمشروع ثم تركته الحكومة وحيدا، فأصاب الرجل اليأس ولم ينطفىء الحلم، ومرت السنوات وتحولت المدينة إلى محافظة وشهدت نهضة عمرانية ولم يخرج المشروع إلى النور وظل حجر الأساس في المكان وظل الحلم يراود صاحبه ويتمنى تحقيقه. أقول هذا الكلام وأنا أرى الدكتور زويل في حواراته التليفزيونية وحديثه في دار الأوبرا تعتريه مسحة من حزن حين يذكر هذا المشروع.


لقد تحدث الرجل عن استراتيجية لتطوير التعليم في مصر ترتكز على عدة محاور من بينها محو الأمية، وزيادة ميزانية التعليم، وتغيير طرق التدريس بشكل جذري وتدريب المعلمين على التكنولوجيا الحديثة، وقبل ذلك زيادة رواتبهم ليعيشوا بكرامة ويقدموا لتلاميذهم كل ما عندهم، فهناك دول تقدمت بالعلم كاليابان، وعندما سأل إمبراطور اليابان عن أهم أسباب تقدم بلاده قال : quot; لقد بدأنا من حيث ما انتهى إليه الآخرون وتعلمنا من أخطائهم وأعطينا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزيرquot; لذلك تنال مهنة التعليم إقبالا كبيرا من اليابانيين ويقدر عدد الذين يحصلون على مؤهلات عليا للتدريس بثلاثين في المئة من مجموع خريجي الجامعات اليابانية، ويبلغ الراتب الأساسي للمدرس نحو ألف وسبعمائة دولار ويحصل على علاوة مالية ثلاث مرات في العام وهي تعادل خمسة أضعاف الراتب الأساسي فضلا عن رعاية صحية، وتأمين له ولإفراد أسرته ولا مجال هنا لمقارنة المعلم في اليابان بنظيره في مصر والدول العربية.


ولن يتم إصلاح أحوال التعليم في مصر إلا بإصلاح أحوال المعلم الذي ينبغي أن يبث قيم المعرفة والتربية ولا يقتصر دوره على التلقين فقط، كذلك إدخال الحاسب الآلي وتدريب المعلمين والطلاب على التقنيات الحديثة، وبناء الثقة بين المواطن والحكومة، فمن المضحكات المبكيات في مصر سرقة أجهزة كمبيوتر من سبع عشرة مدرسة في إمبابة بالقاهرة بالرغم من وجود أفراد حراسة حين قررت الحكومة إدخال هذه الأجهزة في إطار مشروع تطوير مائة مدرسة وهو ما يؤكد انعدام الثقة بين الحكومة والمواطن كلٌ في واد.
كذلك لابد من إعادة النظر في أعداد المقبولين في الجامعات بحسب ما يتطلبه سوق العمل فمن غير المنطقي قبول ألف طالب في كلية الطب في حين أنها تستوعب نصف أو ربع هذا العدد فضلا عن دعم قاعدة البحث العلمي التي بدونها لن تحدث نهضة علمية، وإعادة أقسام التميز الأكاديمي داخل الجامعات والاستفادة من البعثات العلمية التي تكلف الدولة ملايين الدولارات، وإيجاد فرص للباحثين العائدين من الخارج وتوفير المناخ الملائم لهم ليطبقوا ما تعلموه.


إن تجربة مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا ليست بعيدة عن العالم العربي، فقد استطاع تغيير وجه ماليزيا خلال عقدين من الزمان، ونهض بها تنمويا وجعلها في مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا، وحولها من دولة زراعية إلى دولة صناعية متقدمة، ارتفع فيها دخل الفرد وقلص حجم البطالة وحقق نسبة نمو وصلت إلى تسعة في المئة، وقام بإعداد المواطن الماليزي علميا وتكنولوجيا قبل أن يدفع به إلى سوق العمل، من اجل زيادة الإنتاج، وأرسل البعثات للخارج وتواصل مع العالم المتقدم، واتاح لجميع القطاعات المشاركة في عملية التنمية، لتصبح ماليزيا من النمور الآسيوية، كل ذلك حدث في خلال اثنين وعشرين عاما منذ تولى السلطة عام واحد وثمانين وحتى انسحابه من الحياة السياسية في قمة مجده عام إلفين وثلاثة، ونحن في عالمنا العربي ومصر تحديدا تراجعنا اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا واجتماعيا ولا يزال هناك من يمسك بزمام السلطة الى أن يأتيه اليقين.


إن التجربة الماليزية قابلة للتحقيق في مصر بمساعدة المجتمع المدني ورجال الأعمال، ولنأخذ العبرة من الآخرين، فقد سبقتنا تركيا حين أسست مدينة للعلوم والتكنولوجيا بمساهمة من رجال الأعمال، وأعفت الحكومة التركية المشاركين فيها من الضرائب، وقدمت كل التسهيلات وأعادت النظر في ميزانية التعليم لتقترب من اثنين بالمئة من ميزانية الدولة.
كذلك الصين حققت معجزة علمية واقتصادية من خلال التعليم وتراوح النمو الاقتصادي هناك ما بين عشرة واثني عشرة بالمئة أي أعلى من الولايات المتحدة واعتمدت في نهضتها على التعليم حتى أن أفضل طلبة دراسات عليا وحاملي الدكتوراة في العالم من الصينيين تتهافت عليهم ارقي الجامعات العالمية.


إن العالم العربي لا يذكر على خريطة العالم العلمية، فاهم خمسين جامعة في العالم لا يوجد بينها جامعة عربية، ولا يساهم العالم العربي بأي منتج عالمي، فهو لا يزال سوقا للاستهلاك فقط، يبلغ تعداده أكثر من ثلاثمائة مليون نسمة، ولا يمكن أن يحدث تغيير في العالم العربي ما لم تكن هناك إرادة التغيير، ومصر صاحبة الثقل في هذا العالم ولها أن تقود القاطرة قبل فوات الأوان.
إعلامي مصري