بحسب فتوى تكفير من أباح الاختلاط الأخيرة فإنه يجب أن ننصب محاكم تفتيش واسعة هدفها قتل من يصر على رأيه ويقول أن الاختلاط جائز. سيقتل في هذه المحاكم كثيرون باعتبار أن من يرى جواز الاختلاط كما هو في كل دول العالم الإسلامي ملايين من البشر. ستسيل دماء كثيرة من أجل الاختلاط ودماء أكثر يجب أن تراق بسبب الحجاب والأغاني فضلا عن الاختلاف في العقيدة والأصول.هناك قضايا أهم من الاختلاط أو في مستواه يجب أن تقام لها محاكم أيضا من أجل قتل من يخالف فيها. سيقتل في هذه المحاكم كثير من علماء الدين في العالم باعتبار أنهم يقولون بجواز الاختلاط ولا يعتبرون ما يؤدي إليه من المحرمات ويقدمون من الأدلة والبراهين الشرعية التي تثبت جواز الاختلاط. سيقتل في هذه المحاكم غالب الكتاب والمثقفين الذين يدعون للاختلاط ويحاولون أن يقدموا من العقل والواقع والتجارب ما يثبت أن الاختلاط هو طبيعة الحياة وأن عزل الجنسين لا يؤدي إلى فضيلة بقدر ما يؤدي إلى خلق حالة خطيرة من تفكك المجتمعات وارتفاع الشذوذ فيها وحرمان المرأة من حقها في المشاركة في الحياة. كل هؤلاء سيعدمون كما سيعدم معهم أعداد كبيرة من البشر عاشت لقرون طويلة على حالة طبيعية من الاختلاط لم تفسدهم بقدر ما جعلت حياتهم أقرب للطبيعة المستقيمة.
على حسب الفتوى الأخيرة فإن كل من رضي بعمل أو دراسة زوجته أو بنته أو أخته فهو يمارس الدياثة (القوادة) عليهم. هذا يشمل عشرات الآلاف من المواطنين الذين لهم قريبات يعملون في المستشفيات والبنوك أو الشركات الكبرى. هذا يشمل عشرات الألوف من الأسر المبتعثة للدراسة في الخارج. هذا يشمل أغلب السعوديين قبل فترة الصحوة البائسة ، هذا يشمل أباءنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا الذين كانوا يعيشون في بيئة مختلطة بالكامل. هل هناك شتيمة أكبر من هذه يمكن أن يتعرض لها شعب على هذه الأرض؟ هل هناك اعتداء واحتقار وإهانة أكبر من هذا؟.. لكن ليس بعد الآن. من قبل كان الوعّاظ يخرجون في المساجد ليتهموا من لديه تلفزيون وقنوات فضائية بالقوادة على أهله. كنّا مخدرين بمخدرات الصحوة البائسة ولا نسمع إلا ما يسمعون ولا نرى إلا من يرون. أما اليوم فإننا سنقول لكل هؤلاء شتيمتكم مردودة عليكم وكل ما تقولونه مرفوض وخاطئ ولن نسمح لكم أن تتجاوز فتاواكم حناجركم. بدأ عصر الظلام في الزوال ، رؤى جديدة عن الدين والتاريخ والحياة بدأت تخرج وتقنع الناس بروحها وسلامها وقدرتها على الإقناع. رؤى جديدة تتوافق مع الحياة ومع التقدم ومع العقل السليم. هذه الرؤى هي التي تستحق الإنصات والتفكير والاحترام أما رؤى التطرف والتشدد فإنها مرفوضة وخارج سياق التاريخ وفاقدة للمعنى والقيمة. فقط ما تستحقه هو التحذير من خطرها ليس للاختلاف معها فهذا ليس مشكلة بل لأنها تريد القتل والدم. تدعو لقتل الآخرين المختلفين معها.فتاوى تنشد الدم ولا تعيش إلا به، هذه قنابل موقوتة لا ينتج هنا سوى الدمار والهلاك والاستعباد والظلام.
قبل سنوات قامت طالبان بتطبيق فتاوى التكفير فاضطهدت الشعب الأفغاني وسامتهم شر العذب. حولت طالبان ذلك البلد البائس إلى جحيم لا يطاق والنتيجة أن كل شيء انهار بسرعة. حركة خارج التاريخ والواقع لا تعمل إلا بالقهر والجبر تستطيع العيش في الكهوف والأحراش ولكن ليس في دولة داخل العالم تنشد الحياة الكريمة والعدل والمساواة. طالبان هي النموذج السياسي المفضل للمتطرفين من السنة في أي مكان. لأنها تحديدا هي التي طبقت سيل فتاوى الدم الذي أغرقونا به. سيل الفتاوى التي هي تشبه قرارات هتلر وستالين وبونيشيه وكل تيارات العنف والدماء في العالم. كل هؤلاء سقطوا لأنهم يحملون بذرة الدمار في داخلهم بذرة الاستبداد والعنف بذرة لا أريكم إلا ما أرى، بذرة احتكار الحقيقة وإرهاب كل من يعترض عليها، بذرة احتقار الآخرين واستباحة أنفسهم وأعراضهم ، بذرة القهر والجبر والظلم. هذه البذرة لا تنبت إلا الفساد في كل مكان، لا تنبت إلا التخلف والدماء والاستعباد وعلى الناس مقاومتها بكل ما يستطيعون من قوة وكما يقول المثل الشعبي ليس دون الحلق إلا اليد.
أي مساحة للحوار والاختلاف هنا مع فتاوى الدم؟ المحكمة منصوبة والحكم جاهز. لا مجال للأخذ والعطاء إما الخضوع أو الموت. مساحة الحوار والاختلاف معدومة ولا يمكن الحصول عليها إلا بمنطق الرفض، رفض منطق الاجبار والقهر ، رفض كل التراث الذي يبرر التشدد، رفض منطق العقلية المتسلطة، رفض قانون اتبعني وانت أعمى. رفض منطق الكهنوت واحتكار الحقيقة. الحل في العودة إلى حق الفرد في التفكير والتعبير، حقه في الاجتهاد وابداء الرأي، حق الفرد في أن يقوم بمسئوليته في تولى مهمة التفكير في حياته. أن يملك الشجاعة في أن يفكر ولا يفكّر له، حق الفرد في أن لا يسلم عقله لأحد ولا يسمح لأحد أن يستولي على عقله. حق الفرد في أن يرفض استعباده من فرد آخر.
جماعات جديدة في المجتمع السعودي اليوم لديها القدرة على الحوار والتفكير ونقاش قضايا الوطن والإنسان ، جماعات تشمل أعداد كبيرة من المواطنين المتعلمين على مستوى عالي من التعليم ، مثقفين ، مجتهدين دينيين جدد ، نساء ورجال ، وننتظر أعداد أكبر في المستقبل. هذه الجماعات بدأت تتفاعل مع بعضها بشكل سلمي وهادئ ومتعقل بعيدا عن الدماء والقهر. هذه الجماعات هي أمل المستقبل لهذا الوطن وإنسانه هذه الجماعات تحترم حق الأفراد في الاختيار والتفكير والتعبير ، نجاح هذه الجماعات واستمرارها هو ما سيجعل فتاوى الدم تبدو للمتابعين قطعا أثرية تنتمي للماضي السحيق ولا يمكن أن تدخل متحف إنسان الحرية والعدل والمساواة.

faculty.ksu.edu.sa/27823