يُطلّ المفكر اللاعنفي جَودت سعيد إلى العالم ليقرأ الواقع الانساني من خلفيته الرّوحية المرتكزة على أسس السلام الكوني من خلال قراءة وفهم للنصوص اللاهوتية الاسلامية، وكمؤمن بالعقل والوحي، فيقرأ الآيات في الكون وquot;الكتابquot;، ويعيد التأويل ببصيرةٍ يتفتح من خلالها السمع والبصر على ما يحدث في العالم، فيتحرَّك بين النص quot;المقدسquot; والواقع المعاش، ويطرح جدليات الوحي والتاريخ، وعلاقات الألوهة والتكليف، فيرى أن القرآن يُسَهِّل عليه الدّخول إلى فهم اللاعنف وتحقيق السلام كون النص القرآني يُعطي قيمة كبيرة للتاريخ وعواقب الأحداث، ويؤكد أن هذا الكون يعيش حالة خلق وزيادة مستمرتين، وأن هذه الزيادة تتجه في سيرورة تطوريّة نحو الأفضل.كما أنه يعلن ان باب السماء قد أغلق وانتهى عصر النبوات ليبدأ عهد العقل الإنساني، حيث ينبغي على الآمرون بالقسط من الحكماء بلورة المبادئ العقلية

مشكلة العنف: قلة وعي وأفكار عرجاء

(إن الأفكار والمفكرين هما منشأ الأزمة، سواء فيما يقدمونه أو فيما لا يقدمونه للناس، ولذلك فإنه من التزوير الكبير أن يَحضر المثقف في الأزمات كمنقذ. إن من الأجدر به أن يحضر كمتهم، أن يحضر للمراجعة واتِّهام الذات والبحث الجذري، وإعادة النظر في المنطلقات. لكن وبكل أسف ومرارة، فإن دور المثقف إلى اليوم يعتريه تشوهان كبيران:
bull;إما أنه في وعيه وفهمه يسير خلف التاريخ، ومن ثم فإنه لا يملك القدرة على رؤية راهنة للعالم، تستند على التاريخ وتستشرف المستقبل، تمكنه من تقديم مشورة نافعة ونصح سديد للساسة تساهم في تغيير التوجه العالمي المنتج للأزمات.

bull;أو أنه متواطئ صامت راض بما تؤمنه له الأوضاع السائدة من امتيازات أنانية تجعله يغض الطرف عما يحدث في العالم، وعندما يستشيره الساسة يقدم لهم ما يريدون لا ما ينبغي عليهم فعله، بل إن هذا التواطؤ بحسب المفكر الفرنسي بيير بورديو هو العامل الأساس فيما نحن فيه من أوضاع.

اما المسلمون فقد مسخوا الإسلام بمفهومه الكوني وشوَّهوا حقيقته باتخاذ العنف سبيلا علما ان الانبياء والحكماء أجمعين أثبتوا، وبكل المعايير، (أن الحقّ وحده من غير قوة، يستطيع أن يثبت ذاته، ويوجد كيانه، و أن المجتمع الرشاد يصنع بطريق الرشد الذي لا إكراه فيه... وإن المعركة الفكرية تقتصر على الوسائل الفكرية، ولكن المسلمين ( و غير المسلمين ) ضيعوا هذا التاريخ النظيف، ولا زال مسلمو زماننا منهزمون، والسبب هو أنَّهم يحملون أفكاراً عرجاء لا تستطيع أن تصمد في الصراع الفكري، فإن كنتم، يا مسلمون، تثقون بأفكاركم، فلماذا لا تسلكون السبيل الذي سلكه رسول الله، من منع العنف، ومنع استخدام القوة، حتى صنع المجتمع الراشد والحكم الراشد بالفكر الأبيض واليد البيضاء.

إن كنتم لا تفهمون هذا، فستضطرون إلى فهمه في المستقبل، وستقبلونه رغماً عنكم، ولكن بعد أن تدفعوا أثماناً باهظة، والحكم الذي ستصنعونه بالعنف لن يكون حكماً راشداً، بل سيرجع عليكم بالعنف فيما بينكم، ومن لا يعتبر بالتاريخ الماضي، فإن التاريخ القادم سيحمل إليه ما يضطره للقبول به.)

والانبياء رسالتهم لاعنفية وجوهرها واحد ( و يُمكن أن نقول: إن الاعتراف بوجود رسل لم يرد ذكرهم في كتب الديانات التوحيدية في الفضاء الثقافي الذي أرسل فيه نوح وإبراهيم، يفتح الباب للاعتراف برسل الثقافات الأخرى سواء في الشرق الأقصى، أو في أفريقيا، أو السكان الأصليين في القارة الجديدة.
إن تطلعات الأنبياء لمستقبل البشرية لم تأت إلى حياة البشر، حيث كان مبدأ الأنبياء في أعلى مقاصدهم أن يكون تنافس البشر في فعل الخير )

وتتمحور طروحات جودت سعيد في مقاربته للاعنف حول ثلاثة مرتكزات أساسية نجدها كنظرية متكاملة استقاها من النصّوص القرآنية المتعلقة بقصة خلق آدم، وبالرغم من انه انطلق من خلفية ميتولوجية quot;لاهوتيةquot; فقد هدف الولوج الى المعنى الرمزي والمغزى اللاعنفي دون إلزام الغير بمضمون النص كحقيقة تاريخية ليصل الى خلاصة أن الفساد وسفك الدماء هي مشكلة البشر و أن الانسان بوصفه كائنا عاقلا يختار بوعي، فإن عليه تحمل مسؤولية تبعات أفعاله وأخطائه، وان للعقل دورا مهمًّا وسلطة تتفوق على كل عنف وهي مرحلة تدشن عهدًا جديدًا في تاريخ الحضارة البشرية ونقلة نوعية الوعي الإنساني.


أولا: مفهوم الفساد في الأرض ودور الكائن الانساني فيه:

أن الملائكة اعترضت على خلق الإنسان في لحظة الخلق الأولى و((قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)) فأجابهم الله: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ))، وهذا النص كما نفهم من التاريخ، يرسم الأفق الذي يتحرك إليه الإنسان، فالإنسان وإن بدأ في الفساد وسفك الدماء لكن منحى تطوره واتجاه تقدمه هي: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) وإذا كان البشر إلى اليوم لا يزالون يعيشون حسب توقعات الملائكة، حيث الفساد وسفك الدماء وشن الحروب، فإننا نرصد في التاريخ ما نقرؤه في الكتاب من خطو الإنسان باتجاه ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) [البقرة، 30].كإشارات على بدء تحقق علم الله في الإنسان.

ثانيًا: مفهوم الإختيار و مبدأ تحمّل مسؤولية
( إن صنع الأسباب يكون بالاختيار لا بالحتم. ولكن حدوث النتائج حتْم. فبهذا الشكل صار الإنسان مسيطراً على الحتم، كما أن الإنسان حين يَغفُل عن سنن الله، فإن سنن الله لا تغفل أن تأخذ طريقها دون شعور من الإنسان الغافل. وحينئذ لن يتمكن الإنسان أن يرى للتاريخ أسباباً، وإنما يرى أحداثاً حتميَّة، لا دخل لجهد الإنسان فيها. فمن هذه النظرة تنشأ القدريَّة..)

وفي قصة آدم وزوجه تحملا نتائج صنيعهما عندما أوصاهما الله: ((لا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ))، لكنهما نقضا الميثاق، فأكلا من الشجرة المحرمة وعندما ناداهما ربهما ((أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ)) كان جوابهما: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)) [الأعراف، 19-23]، فاعترفا بالخطأ وتحملا مسؤولية فعلهما، وهذا يمكن أن نقرأه على أنه جواب على اتّهام الملائكة في النص السابق، ورسم ملامح سبيل الله، سبيل الإنسان للتقدم في التاريخ، مقابل سبيل الشيطان الذي يبرر معصيته مرة بحجة عنصرية ((أنَا خَيْرٌ منْه))، ومرة بحجة فلسفية ((فَبِمَا أغْوَيْتَنِي)).

ويتبين مما قدمن أن القرآن يؤكد تدخل جهد البشر في صناعة أحداث التاريخ. وبمقدار وضوح هذه الحقيقة في آيات القرآن فإنها غامضة بالنسبة للمسلمين.
وخلاصة القصة إن تبرئة الذات واتهام الآخر ليس حلاً للمشكلة، وإنما ابتعاد عن سبيل الحل، إن الحل يكون باتهام الذات، والبشر جميعًا حتى يومنا هذا على مذهب الشيطان في تبرئة الذات واتهام الآخر، وليس على مذهب آدم في اتهام الذات الذي تدعمه سنة التاريخ وحقائق الحياة ومنهج القرآن. ((مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) [النساء، 79].
وعملية فهم أحداث التاريخ بهذا الشكل الذي يتدخل فيه جهد البشر، يساهم مساهمة كبيرة في إيجاد شرط أساسي من شروط الفعالية ؛ وذلك لأن هذه النظرة لا تؤدي إلى نتائج نظرية فحسب، بل تتدخل في تكييف سلوك الإنسان أمام الأحداث وتضع الإنسان في المكان المناسب له في هذا الكون.

اللاعنف والعقل.
إن استهلال التاريخ الإنساني لم يكن بالقتل أو بالجريمة، وإنما كان بخيار إنساني يتناسب مع هذا الخلق الجديد الدماغ الإنساني، فكان اللاعنف، ورفض القتل وسفك الدماء، وعدم الدفاع عن النفس.
والتاريخ سجل هذه الشهادة مرات كثيرة، وكان أكثر المرات وضوحًا، في موقف سقراط وتحديه بقبول الموت، على أن يوقفَ حواره مع الجهاز العصبي، أو يتخلى عن واجبه ومسؤوليته.

ويمكن ان يقرأ المرء ذلك في قصة ابنَيِّ آدم، فالذي فشل في عمله قال للآخر: ((لأقتلنك))، لقد اتهم الآخر بأنه سبب الفشل، بدل اتهام ذاته، ورأى القتل سبيلا للحل، لكن الإنسان الذي أدرك إنسانيته وعرف نعمة الله في الدماغ الذي وهبه، أبى أن ينتكس إلى عالم العضلات، بعد أن عرف نعمة العقل فأجاب: ((لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)) [المائدة، 27-28]، لقد رفض أن يشارك في القتل بإصرار ووعي وتحمل للمسؤولية والتبعات، لقد أدرك إنه يملك سلطة جديدة هي سلطة العقل، وعليه أن يستخدمها فدشن بهذا عهدًا جديدًا، شكل نقلة نوعية للتاريخ والوعي الإنساني.

خلاصة:
يريد جودت سعيد ان يحيك نظرية اللاعنف المتمحورة حول هذه القصص وهو الثقة بالإنسان ومستقبله، وتأكيد أهليته لعمارة الأرض، والإيمان بقدرة الإنسان على وقف الفساد وتوطيد العدل، من خلال تحمل البشر عمومًا والمثقفين الحكماء خصوصًا مسؤولياتهم في التاريخ، فعليهم ألا ينتظروا المخلص فكلهم مخلص، عبر سبيل الله، وطريق ابن آدم، طريق احترام عقل الإنسان، الذي يعني تلقائيًا اتهام الذات وسلوك اللاعنف، فالإيمان بالعقل أسلوبًا لحل المشكلات، هو استبعاد بطريقة آلية للعنف والقتل كحل أو أسلوب لحل المشكلات.

http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/

---

جودت سعيد - مذهب ابن آدم الأول ndash; دار الفكر المعاصر دمشق ndash; سوريا ndash; 1993 حيث تناول مشكلة العنف في العمل الإسلامي.
جودت سعيد ndash; كن كابن آدم ndash; الفصل السابع ndash; مذهب الرشد: مذهب الأنبياء ابن آدم والانبياءndash; دار الفكر المعاصر ndash; دمشق ndash; سوريا - 1997 - البحث المعنون ndash; النبي والقوة الفكرية.

جودت سعيد: دور الفاعلين الدينين في بناء السلم والديمقراطية - في محاضرة ألقاها في بلجيكا بتاريخ 2- 12 - 2009
Jawdat Said Mohamed: The role of religious actors in peace-buildingquot; ndash; Islam، Christianity amp; Europe - 2nd series of seminars - 2009-2010
جودت سعيد - الدين والقانون - دار الفكر المعاصر - دمشق سوريا 1998 - مبحث quot; وحدة النبوات quot;
جودت سعيد ndash; كن كابن آدم ndash; مرجع سابق ndash; بحث بعوان ndash; ابن آدم ومشكلة الفساد
جودت سعيد ndash; الإنسان كلا وعدلا ndash; دار الفكر المعاصر ndash; دمشق سوريا ndash; ط1 ndash; 1993 مبحث بعنوان: نظريتا التاريخ.

جودت سعيد ndash; الدين والقانون ndash; مرجع سابق مبحث: قصة ابنيّ آدم.