تشكل عبارات التسليم (عليه السلام) والترضية (رضي الله عنه)، عقب ذكر أي رمز من رموز الإسلام، واحدة من مفردات الخلاف المحزن الذي أفرزته مفاصل تأريخية غاية في الحساسية والدقة والتعقيد. تلك المفاصل التي تركت وبوضوح بصماتها الدامية على ماضي الأمة الإسلامية ليصطبغ حاضرها باللون ذاته، ولا أظن أن يسلم مستقبلها منه إلا أن يشاء الله ويتناخى نجباء هذه الأمة لينقذوها من مأساة إدمان الاجترار السلبي للتاريخ الإسلامي بالتركيز على فواجعه الكارثية واهمال صفحاته الناصعة البياض.


يتفق المسلمون على إيراد عبارات الصلاة والتسليم عند ذكر صاحب الرسالة وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله. ويتفاوتون في ضم آل البيت لتلك الصلاة أو اغفال ذكرهم في مسألة يطلق عليها مسألة (الصلاة البتراء) وذلك نسبة إلى قول النبي الذي أورده ابن حجر في الصواعق المحرقة حيث قال (ص) (لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: تقولون اللهم صلّ على محمد وتمسكون، بل قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد) ( الصواعق المحرقة : 225 طبعة بيروت).

إلا أنهم يختلفون فيمن يستحق عبارة التسليم ومن لايستحق سوى عبارة الترضية من الصحابة والخلفاء وأئمة المذاهب والعلماء الأعلام من السلف والخلف.


فيرى أنصار مدرسة الصحابة (أو أهل السنة والجماعة كما يحبون أن يتسموا) أن عبارة التسليم يجب أن لا تقال إلا عقب ذكر نبي من أنبياء الله المكرمين. بينما يرى أصحاب مدرسة الإمامة (أو الشيعة الإمامية الإثنا عشرية كما يحبون أن يتسموا) أن أئمة أهل البيت (علي وفاطمة وأولادهما وأحفادهما المعصومين) لا يسبقهم بالأفضلية أحد سوى جدهم رسول الله، لذلك فعبارة التسليم يجب أن تلي أسماءهم كلما ذكروا.


ويطلق أنصار المدرسة الأولى عبارة الترضية على جميع الخلفاء والصحابة والتابعين وتابعي التابعين وعلى جميع أئمة المذاهب بما فيهم أئمة أهل البيت الذين لايرون أنهم معصومون، بل هم علماء أجلاء تقاة لايمنحهم نسبهم من رسول الله شيئاً خاصاً سوى لقب quot;الأشرافquot; من بني هاشم.


بينما يطلق أنصار المدرسة الثانية عبارة الترضية على الصحابة وعلى أصحابهم من التابعين وتابعي التابعين وتابعيهم من العلماء الفقهاء المجتهدين إلى عصرنا الحاضر.


ولقد ترسخت تلك الأفكار في أذهان العوام من أبناء الأمة الإسلامية حتى صارت عندهم علامة يتعرف من خلالها الشخص على هوية محدثه المذهبية. ذلك التعارف الذي غالباً ما يتبعه شعور واحد من شعورين لا ثالث لهما: إما الارتياح والاقبال على الحديث وقبوله بغثه وسمينه لأنه صادر عن quot;جهة موثوقةquot;، أو النفور والامتعاظ وتوخي الحذر والتشكيك في كل ما يصدر عن هذا المتحدث لأنه يمثل الأخر quot;المعوجquot; الذي يجب أن يصلح عقيدته قبل أن يتوجه للطرف الآخر بالحديث.


تعالوا نتلمس ورود عبارات الصلاة والتسليم والترضية في مصدر التشريع الأول عند كافة المسلمين، القرآن الكريم، ونرى كيف وردت وبأي سياقات استخدمت. وهل لتلك التابوهات صلة بالخطاب الإلهي الموجه للبشرية جمعاء منذ أن خلق الله الخلق إلى قيام الساعة؟


في سورة الأحزاب أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نصلي على رسوله الكريم وأن نسلم عليه تسليما (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلائِڪَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبيۚ يا أَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا) (الأحزاب: ٥٦).


ولكن الله عز وجل لم يقتصر صلاته على نبيه الكريم فحسب بل شمل بها جميع المؤمنين من عباده الصالحين. فقال في سورة الأحزاب أيضاً: (يا أَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرً۬ا كَثِيرً۬ا. وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةً۬ وَأَصِيلاً. هُوَ ٱلَّذِى يُصَلِّى عَلَيۡكُمۡ وَمَلائِڪَتَهُ لِيُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـاتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَڪَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَحِيمً۬ا) (الأحزاب: 41- ٤٣).


وورد مثل هذا المعنى في سورة البقرة حيث قال عز وجل: (ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَـابَتۡهُم مُّصِيبَةٌ۬ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٲجِعُونَ. أُوْلَـٰٓٮِٕكَ عَلَيۡہِمۡ صَلَوَٲتٌ۬ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٌ۬zwnj;ۖ وَأُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ) (البقرة: 156- ١٥٧).


هذا في ما يخص الصلاة على النبي، وأما في ما يخص التسليم فقد وردت العديد من الآيات التي يسلم فيها رب العزة على أنبيائه ورسله. فقد سلّم على يحيى في قوله: (يَـايَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡڪِتَـابَ بِقُوَّةٍ۬zwnj;ۖ وَءَاتَيۡنَـاهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيًّ۬ا. وَحَنَانً۬ا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً۬zwnj;ۖ وَكَانَ تَقِيًّ۬ا. وَبَرَّۢا بِوَٲلِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّ۬ا. وَ سَلامٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيًّ۬ا) (مريم: 12- ١٥).


وقد سلّم عز وجل على نوح في قوله: (سَلامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِى ٱلۡعَـالَمِينَ) (الصافات: ٧٩)، وسلّم على إبراهيم في قوله: (سَلامٌ عَلَىٰٓ إِبۡرَٲهِيمَ) (الصافات: ١٠٩)، وسلّم على موسى في قوله: (سَلامٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ) (الصافات: ١٢٠) وسلّم على إلياس في قوله: (سَلامٌ عَلَىٰٓ إِلۡ يَاسِينَ) (الصافات: ١٣٠)، بل وسلّم على جميع المرسلين في قوله: (سَلامٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ) (الصافات: ١٨١).


وكما هو الحال في الصلاة، لم يقتصر أمر تسليم الله عز وجل على الأنبياء والمرسلين بل شمل كل عباده الصالحين الذين وعدهم بالجنة فقال: (وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّہِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَـاهُمۡ سِرًّ۬ا وَعَلانِيَةً۬ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ. جَنَّـاتُ عَدۡنٍ۬ يَدۡخُلُونَہَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآٮِٕہِمۡ وَأَزۡوَٲجِهِمۡ وَذُرِّيَّـاتِہِمۡzwnj;ۖ وَٱلۡمَلاٮِٕكَةُ يَدۡخُلُونَ عَلَيۡہِم مِّن كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡzwnj;ۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ) (الرعد:22- 24). وقال في موضع آخر: (إِنَّ أَصۡحَابَ ٱلۡجَنَّةِ ٱلۡيَوۡمَ فِى شُغُلٍ۬ فَـاكِهُونَ. هُمۡ وَأَزۡوَٲجُهُمۡ فِى ظِلالٍ عَلَى ٱلۡأَرَآٮِٕكِ مُتَّكِئونَ. لَهُمۡ فِيہَا فَـاكِهَةٌ۬ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ. سَلامٌ۬ قَوۡلاً۬ مِّن رَّبٍّ۬ رَّحِيمٍ) (يس: 55- ٥٨). وقال: (قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَىٰٓzwnj;) (النمل: ٥٩).


وفيما يخص الترضية فقد وردت في أربعة مواضع في القرآن الكريم. في سورة التوبة ترضّى الله عز وجل عن الأولين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان ووعدهم بالجنة فقال: (وَٱلسَّـابِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَـاجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَـانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡہُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـاتٍ۬ تَجۡرِى تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَـارُ خَـالِدِينَ فِيہَآ أَبَدً۬اzwnj;ۚ ذَلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ) (التوبة: ١٠٠).


وفي المواضع الثلاثة الأخرى ترضّى الله سبحانه وتعالى على المؤمنين الصادقين الذين يعملون الصالحات ولا يوادّون من حادَّ الله ورسوله فقال:


(هَـٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّـادِقِينَ صِدۡقُهُمۡzwnj;ۚ لَهُمۡ جَنَّـاتٌ۬ تَجۡرِى مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـارُ خَـالِدِينَ فِيہَآ أَبَدً۬اzwnj;ۚ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡہُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُzwnj;ۚ ذَلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ) (المائدة: ١١٩).


(لَّا تَجِدُ قَوۡمً۬ا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأَخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ۥ وَلَوۡ ڪَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٲنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَہُمۡzwnj;ۚ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ ڪَتَبَ فِي قُلُوبِہِمُ ٱلۡإِيمَـانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ۬ مِّنۡهُzwnj;ۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّاٰتٍ۬ تَجۡرِى مِن تَحۡتِہَا ٱلۡأَنۡهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَاzwnj;ۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡہُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُzwnj;ۚ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ حِزۡبُ ٱللَّهِzwnj;ۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ) (المجادلة: ٢٢).


(إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـالِحَـٰتِ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ. جَزَآؤُهُمۡ عِندَ رَبِّہِمۡ جَنَّـاتُ عَدۡنٍ۬ تَجۡرِى مِن تَحۡتِہَا ٱلۡأَنۡہَـارُ خَـٰاِدِينَ فِيہَآ أَبَدً۬اzwnj;ۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡہُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُzwnj;ۚ ذَلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة:7- ٨).


من هنا نجد أن الله سبحانه وتعالى قد صلى على عباده المؤمنين وسلَّم وترضى عليهم دون أن نجد ترتيباً في أفضلية الصلاة على التسليم أو في أفضلية التسليم على الترضية. هذا من جهة ومن جهة أخرى إنه سبحانه شمل بصلاته وتسليمه وترضيته كل من آمن به وعمل صالحاً. فبعبارة أخرى إذا كنت عزيزي القارئ ممن آمن بالله وعمل صالحاً فيحق لي أن أقول لك: (صلى الله عليك) و(عليك السلام) و(رضي الله عنك).


والأسئلة المحزنة التي تبقى معلقة هي:

من أين جاءت هذه التابوهات؟

ومن أسبغ عليها صفة العقائد لتصبح من quot;صلبquot; الإيمان؟

والأهم من هذا وذاك، لماذا يعيرها من يرغب في نبذ التماييز الطائفي ما لا تستحقه من الاهتمام؟

أليس من الأجدر به أن يخطو خطوة ايجابية ولو صغيرة نحو أخيه ويتجاوز عن هذه الصغائر التي ما أنزل الله بها من سلطان؟

الجامعة الوطنية الأسترالية

كانبيرا - أستراليا