سأبدأ الكلام برواية نكتة: قبل أعوام، وبينما كان الحديث يدور حول السّياسة والشرق الأوسط، ذكرتُ لصديق من أصل تركي المقولة القومويّة العربيّة الشّائعة على ألسنة الكثيرين من العرب والّتي تقول إنّ العالم العربي في وضع متخلّف لهذه الدرجة بسبب الحكم العثماني الذي استمرّ أزيد من أربعة قرون. وما أن سمع الصديق كلامي حتّى انفجر ضاحكًا. لم أفهم سبب ضحكه، فاستفسرت عن عمّا وراء هذا الضحك، فقال: في تركيا يقولون شيئًا مشابهًا، إنّهم يقولون هناك إنّ تركيا متخلّفة لأنّها حكمت العرب طوال هذه القرون.

تذكرت هذه النكتة الآن بينما كنت أتابع ما يجري على الساحة العربية الآن بعيد جريمة القرصنة العسكريّة الإسرائيلية على متن سفينة quot;مرمرةquot; التركية. وهكذا، بين ليلة وضحاها، أضحى أردوغان في نظر القومويّين حامي حمى العروبة. وبين ليلة وضحاها تناسى كلّ أدعياء القومويّة العروبيّة كلّ إرثهم الشعاراتي ضدّ العثمانيين الأتراك والذي رضعوه وأرضعوه ليل نهار لسامعيهم وقرّائهم وطفقوا يهلّلون لمسيحهم الجديد السلطان العثماني القادم من أسطنبول.

إنّ وضع كلّ أصحاب الشعارات هؤلاء من أدعياء العروبة لهو أشبه بمتسوّلي قشّة في عرض بحر متلاطم الأمواج. لا شكّ أنّهم سيرفعون أصواتهم مهلّلين للسّلاطين العثمانيين الجدد من ميكروفونات quot;قلب العروبة النابضquot; في أكبر قاعدة أميركيّة في الشرق الأوسط. إنّه quot;القلب النّابضquot; لذات السّلطنة التي كانت الصحافة العالمية قد أشارت قبل أسبوعين فقط إلى أنّ أميرها طلب أكثر من مرّة إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل مقابل السماح لقطر بإدخال مواد ومعونات لغزّة، ومقابل أن تقوم إسرائيل بتصريح إعلامي يشيد بدور قطر الإيجابي في المنطقة. وكالعادة، طبعًا لم تنبس ميكروفونات quot;قلب العروبة النابضquot; الجديد في استوديوهات امبراطورية قطر الشعبوية العظمى ببنت شفة حول كلّ هذه الأخبار.

هل نسي كلّ هؤلاء القوميين الجدد أنّهم طالما أشبعونا شعارات حول quot;لواء إسكندرون السّليبquot;. فأين اختفى هذا اللّواء السّليب، وأين اختفت هذه الشّعارات؟ لقد بدأ اختفاء لواء الإسكندرون من الذاكرة السورية بعد حشد الأتراك الجيوش على الحدود السورية، فما كان من الرئيس الأسد الأب إلاّ أن لفلف القضيّة، وأخرج اللّواء quot;السّليبquot; من خارطة سورية، quot;قلب العروبة النابضquot;، على ما شنّفوا آذاننا به طوال عقود.

إنّ مشكلة كلّ هؤلاء ممّن يصنّفون في خانة quot;اليسار العربيquot;، إنْ كان هذا موجودًا أصلاً، ومشكلة كلّ هؤلاء القومويّين الشّعبويّين العرب هي أنّ كلّ هؤلاء جميعًا يعتاشون على ذات الطبخة التي تبدو ظاهرًا جميلة المظهر ولذيذة المذاق غير أنّها دميمة وقبيحة متخفّية خلف مساحيق الشعارات التجميلية التي تُطلى عليها، ومُقزّزة لكثرة ما أكل عليها الدهر وشرب. كلّ هؤلاء كانوا دومًا يتّسمون بالقبح. إنّه ذات القبح الذي شبّوا وشابوا عليه في تعاونهم الدائم مع أسوأ الأنظمة العربية الدكتاتورية المتعسّفة، ملكية كانت أم جمهورية.

فليتفكّر كلّ العرب قليلاً. ماذا جنى العرب من كلّ هذه الاستقلالات والحركات الوطنية بعد جلاء الاستعمار؟ لقد جنى العرب أنظمة ظالمة لشعوبها أسوأ بكثير من أنظمة الاستعمار ذاته. بل وأكثر من ذلك، فقد كان الاستعمار ذاته أرحم بكثير للمواطن العربي من كلّ هذه الأنظمة quot;الوطنية والقوميّةquot;. وإذا كانت هذه هي الحال، فما الحاجة إذن إلى كلّ هذه الاستقلالات؟

كلّ الأنظمة العربية لا يعنيها شيء سوى الحفاظ على الامتيازات والبقاء القبليّ في السلطة، ولهذا فإنّ سياساتها تتبدّل من الألف إلى الياء إذا اقتضتها ضرورة البقاء. وفوق كلّ ذلك، فقد وجد المواطن العربي نفسه في آخر قائمة التخلّف على المستوى العالمي.

إنّ دعاوى العروبة الكاذبة، وإن كانت تُدغدغ عواطف المراهقين العرب، غير أنّها تبقى في سنّ المراهقة حتّى مع تقدّم أصحابها في السنّ. ما لم يطرح هؤلاء بديلاً حقيقيًّا بعيدًا عن أنظمة العسف العربية على كافّة تنويعاتها فلن تقوم لهم قائمة. كلّ شيء يتغيّر ما عدا شعارات العروبة الكاذبة، فهي تتغيّر من موقع إلى موقع، بانتظار منقذ مخلّص أو مسيح، كريشة في مهبّ الريح.

والعقل ولي التوفيق.